الهيمنة للتلفزيون

TT

لفتت شبكات التواصل الاجتماعي انتباه الناس والحكومات في الشرق الأوسط؛ بداية بسبب تأثيرها على مجرى الثورة الخضراء التي اجتاحت إيران بعد الانتخابات الرئاسية في عام 2009، فكانت باعثا للإيرانيين المحتجين على تزييف الانتخابات للاستمرار أياما صعبة في مقاومتهم لشراسة القوات النظامية «الباسيج». تولت هذه المواقع إمداد الناس بتفاصيل أحداث الشارع بالصوت والصورة في اللحظة التالية لوقوعها، وهو ما لا يسمح به إعلام النظام. كان موقع «تويتر» هو أول مراحل توزيع المادة الإعلامية التي يضعها «يوتيوب» على الرف.

نتذكر خلال ثورة الإيرانيين الخضراء مشهد اغتيال الشابة الإيرانية نداء سلطان الذي جعل منها رمزا للنضال من أجل الحرية، على الرغم من أنها لم تكن ناشطة، بل عبرت الشارع في الوقت الخطأ أمام فرد من قوات الباسيج، فأرداها برصاصة جاءت أسفل عنقها، وبسبب كاميرا أيضا عابرة شهد العالم لحظات حياتها الأخيرة.

بمحض الصدفة كنت من أوائل من اطلع على مشهد الاغتيال المؤلم بعد وضعه في موقع «تويتر» نقلا عن «يوتيوب»، فكانت فرصة أن أتابع مدى تفاعل الناس مع هذه الوسائل المثيرة لنقل الأخبار. بعد نحو الساعة ارتفعت نسبة مشاهدة المقطع إلى نحو 5 آلاف مشاهد، ثم استمرت النسبة في تصاعد مطرد، ولم تكد تمر ساعات حتى تجاوز عدد الذين اطلعوا على الحادثة مائة ألف مشاهد. المفاجأة أنه بعد نحو يوم واحد تراجع معدل المشاهدة، ثم أصبحت النسبة شبه ثابتة بمرور الوقت.

فما الذي حصل؟ هل توقفت رغبة الناس في المعاينة؟ أم فقدت الحادثة قيمتها؟

السبب الظاهر والوحيد أن القنوات الفضائية العربية والأجنبية التقطت المشهد ووضعته أمام أعين المشاهدين بالتحليل والتعليق والتكرار، فملأت عين المشاهد ليس فقط بالحدث المجرد، بل بكل تداعياته.

الذين يميلون إلى القول إن موقعي «فيس بوك» و«تويتر» تفوقا على التلفزيون لأنهما من يحرك الرأي العام العربي عليهم معاودة التفكير قليلا. ولنأخذ الحكاية من أولها؛ فمنذ دخول خدمة الإنترنت للمنطقة العربية نهاية التسعينات اندفع الناس بقوة تجاه المنتديات الإلكترونية التي كانت توفر مساحة للرأي والتعبير لم يعهدوها من قبل. بعض المجتمعات المنغلقة اكتشفت أن هناك شعوبا غيرها تعيش على كوكب الأرض؛ آخرين لا يشبهونها، تواصلت معهم عبر الشبكة العنكبوتية التي ربطت بخيوطها الناس وألغت الحواجز والمسافات. اليوم بعد نحو عشر سنوات هجر أقوام المنتديات أماكنهم وارتحلوا إلى «تويتر»، معتقدين أنه الحالة النموذجية للتعبير عن الرأي والحصول على المعلومة والتفاعل معها بسهولة أكثر.

الواقع أن لكل تقنية عمرا، وكل تقنية حديثة تهدد التي قبلها، أي أنها أدوات غير ثابتة، ولكن الناس هم الناس الذين يشعرون بالملل والدهشة والانفعال. «تويتر» لا يستطيع أن يشكل الرأي العام إلا في المجتمعات التي تفتقر للوعي، لأن مصداقيته موضع شك، فهو وسط غير انتقائي، ولا متخصص، ولا مسؤول، لكنه بالمقابل موزع جيد جدا ووسيلة نشر سريعة، كما أنه حجرة مناسبة للثرثرة والتنفيس عن الاحتقان، ومؤشر لقياس المزاج العام.

أدلل على ذلك بحادثتين؛ الأولى حينما خرج وزير الخارجية السوري وليد المعلم في مؤتمر صحافي أمام العالم ليعرض فيديو مصورا لعمليات قتل وتمثيل بجثث، مدعيا أنها من فعل الجماعات المسلحة الإرهابية التي تواجهها سوريا. عندما شاهد الناس هذه اللقطات على شاشات التلفزيون كذبوها، وأظهروا حقيقتها، بأنها حادثة حصلت في لبنان عام 2008 ولا تمت للأحداث السورية الحالية بصلة.

لقد استطاع نظام الأسد أن يخلق مادة إخبارية ويروج لها في «فيس بوك» و«تويتر»، ولكنه فشل في تسويقها حينما أظهرها على شاشات التلفزيون.

الحادثة الثانية متعلقة أيضا بالوضع السوري، وقتما تباهى الرئيس بشار الأسد بأنه الأقوى سيطرة على الأرض خلال الأزمة التي تمر بها سوريا، يعني بذلك عسكريا وأمنيا، لكنه بالمقابل أقر بأنه فاقد السيطرة على الفضاء، يقصد عجزه أمام القنوات التلفزيونية الفضائية التي تقف ضده من خلال كشفها للواقع السوري على حقيقته. لم يذم الأسد «فيس بوك» و«تويتر» فهما متاحان له كما لغيره، أما التلفزيون فالحسابات مختلفة.

هيمنة القنوات الفضائية على تشكيل الرأي العام العربي فيما يخص الوضع في سوريا تخيف نظام الأسد، لذلك يجتهد للتشويش على بثها واختراق مواقعها الإلكترونية، وقد كان معه حق حينما وضع الإعلام الفضائي ندا للعمل العسكري، ما يحصل في سوريا هو حقا حرب بين النظام السوري والفضاء.

لا شك أن التلفزيون هو عملاق الإعلام، هو المؤثر المباشر الذي تجاوز غرف المعيشة إلى صالونات الحلاقة والعيادات والمطارات، بل وامتطى ظهر التقنية في أجهزة الاتصال الحديثة، فهو يحظى تلقائيا بثقة الناس، لأن مهنيته خاضعة لتقييم المشاهد في كل دقيقة بث، لذلك تحرص الفضائية الرصينة على فرز وفحص الأخبار التي تصب عندها، من خلال المصادقة عليها، أو التراجع عنها، ثم التعليق، والتحليل والتكرار.

وكل ما عدا التلفزيون من وسائل، تعمل في الحقيقة لخدمته؛ لتعزيز دوره وتكريس هيمنته.

[email protected]