لماذا يجب مواصلة «الربيع العربي»؟

TT

«هناك علاج وحيد للعلل الناجمة عن الحرية.. هو الحرية»

(توماس ماكولي)

يطول عرض مساوئ الأنظمة - أو على الأقل القيادات - التي أزاحها «الربيع العربي» المنقوص، لأنها كثيرة. على رأسها، في اعتقادي، تناقض الخطاب مع الفعل.

هذه القيادات جاءت حاملة شعارات براقة وزاعمة السعي إلى التقدم الاجتماعي، وإرساء دعائم الاستقرار، وتعزيز الوحدة الوطنية.. وأخيرا لا آخرا، تحرير فلسطين!

ولقد نضجت الثمرة الأولى لنكبة فلسطين (عام 1948) خلال شهور معدودات مع انقلاب حسني الزعيم في سوريا عام 1949. وكما عرف لاحقا رعت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ذلك الانقلاب الذي كان بداية المواجهة القصيرة بين نفوذ واشنطن الإقليمي المتصاعد ونفوذ لندن المترهل المتقاعد.

الذريعة الجاهزة للزعيم يومذاك، بعيدا عن وراثة واشنطن نفوذ لندن في الشرق الأوسط، كان «إعادة الاعتبار للجيش» الذي «أهانه» الساسة التقليديون وأذلوا كرامته في فلسطين، ولا سيما بعد قصة ضبط شكري القوتلي «السمن الفاسد» في مستودعات الجيش السوري. أما في مصر، فكانت قضية «الأسلحة الفاسدة» التي قيل إن الجيش زود بها، وما حصل في الفالوجة وعراق المنشية، المبررَين لانتفاضة جمال عبد الناصر ورفاقه في تنظيم الضباط الأحرار. وأما عن العراق فتزايدت التراكمات منذ «ماكو أوامر» في حرب فلسطين.. وبلغت الذروة مع «حلف بغداد» وميثاق آيزنهاور، فتضافرت جهود الضباط الشيوعيين والقوميين والبعثيين لإطاحة سلطة الأمير عبد الإله ونوري السعيد.

كانت فلسطين المغيبة حاضرة دائما على مسرح التغيير. وكان بعض قادة التغيير - أقول «بعض» القادة - يعنون ما يقولونه، بل كان نفر منهم مؤمنا حقا بأن قضية فلسطين «معيار شرعية» أي نظام يقوم في المنطقة العربية، والمنطلق الطبيعي للنزعة التحررية التي تتلاقى تلقائيا مع حركة التحرر العالمية. ولكن فترة نضج حركة التغيير العربي جاءت قصيرة لسببين رئيسيين: المشكلات البنيوية الداخلية لقوى التغيير التي حالت دون تبلور «الثورة» (أو «الانقلاب») إلى «دولة مؤسسات»، وتعامل القوى الخارجية الكبرى معها.. تآمرا وتصديا وتوريطا.

ما يهمنا هنا المشكلات البنيوية الداخلية، على اعتبار أن القوى الخارجية ما كانت في يوم من الأيام جمعيات خيرية، بل هي دول وتوجهات لديها مصالحها الخاصة، ما يجعلها بمنأى عن التعاطف مع الشعوب، ولكن مع حرصها على المتاجرة بأحلامها. وهذا، بالضبط ما عاشته المنطقة العربية إبان حقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حتى تحقيق الولايات المتحدة نصرها الأهم في يونيو (حزيران) 1967، ومن ثم طرد الرئيس أنور السادات الخبراء السوفيات من مصر عام 1972، وتحالفه علنا مع واشنطن عام 1973.

عندما أسقط الضباط «الثوريون» في مصر والعراق وسوريا الطبقات الحاكمة السابقة، استعاضوا بـ«الثورية» التحررية والوحدوية العروبية عن الملامح المألوفة للمجتمع المدني بما فيه من تعددية حزبية وحرية إعلام. ويومذاك، استطاعت الظاهرة الناصرية في مصر والعسكريتاريا القومية - البعثية في العراق وسوريا تسليط الضوء على عيوب الأنظمة السابقة ومن ثم تضخيمها. غير أن تراكم الممارسات الخاطئة بمرور الزمن كشف عن أن عيوب «الثوريين» سابقا ليست بالضرورة أقل سوءا من عيوب سابقيهم التقليديين، بل في كثير من الحالات أسوأ وأخطر.

ولننظر، مثلا، إلى حال العراق وسوريا، حيث تولى محازبو حزب البعث العربي الاشتراكي السلطة منذ عقد الستينات (في سوريا منذ 1963 وفي العراق منذ 1968)، بعدما صفى البعثيون رفاق «الثورة» من الشيوعيين والقوميين والناصريين وغيرهم.

بداية، كان حزب البعث العربي في الأصل حزبا قوميا عربيا علمانيا أحد مؤسسيه مسيحي اسمه ميشال عفلق. وعام 1952 اتحد الحزب مع الحزب العربي الاشتراكي (أسسه أكرم الحوراني).. فبات حزبا قوميا عربيا علمانيا يؤمن بالاشتراكية. أما عن حدود العراق وسوريا فهي حدود مصطنعة رسمها دبلوماسيان بريطاني وفرنسي هما السير مارك سايكس وفرنسوا جورج بيكو عام 1916، وجرى تعديلها عام 1923 في لوزان (معاهدة لوزان الثانية).

ولكن على الرغم من التلاصق والتراحم بين الكيانين الشقيقين، كانت معظم الفترة التي حكم فيها البعثيون العراق وسوريا فترة عداء مستحكم استمر حتى إسقاط نظام صدام حسين في العراق عام 2003. فالبعث العراقي (القيادة القومية للحزب) تحول تدريجيا بعد وجبات «تآمر» وإعدامات إلى تنظيم مصلحي ذي وجه سني، ومن ثم إلى تكتل سني مناطقي في شمال غربي البلاد يمسك فيه أبناء تكريت والمناطق المجاورة بخيوط النفوذ.. وانتهى طغمة عائلية نهبت البلاد. وفي المقابل، تحول البعث السوري (القيادة القطرية في سوريا) تدريجيا إلى تكتل لضباط الأقليات ومعهم سنيو الأرياف والأطراف، ثم انحصر النفوذ فيه بعد تصفيات و«انتحارات» وفترات سجن لا تنتهي، بطائفة أقلياتية واحدة هي الطائفة العلوية، ومن ثم ضاق إطار النفوذ ليتجسد، كما نرى اليوم، في عائلة الأسد ومن يلوذ بها ويخدم مصالحه.

في العراق وسوريا - وفي مصر أيضا - أدت فترة الهيمنة المتطاولة للطغم التي «ورثت» قوى التغيير (التكريتيون في العراق والأسديون في سوريا وآل مبارك في مصر) إلى تدمير الديناميكية في الحياة المدنية، وأسهمت إسهاما مباشرا في التفتت والتشرذم والهروب الاعتراضي اليائس إلى التطرف الديني.. بكل ما يحمله من مخاطر الفتنة في مجتمعات متعددة الأديان والطوائف.

اليوم عندما نرى تعدد المرشحين الرئاسيين اليساريين والقوميين والليبراليين في مصر في وجه الكتلة الإسلامية التي سيطرت على البرلمان بعد ثورة 2011.. ندرك مدى افتقار النخب السياسية المصرية إلى استيعاب أهمية العمل الجبهوي المؤسساتي. والشيء نفسه نجده في قوى المعارضة السورية التي يطغى عليها التشكك والتنافر في وجه نظام فئوي فاشي تغوّل في القتل والتدمير.. وها هو يلجأ إلى استثمار سلاحه القديم الجديد - أي الإرهاب - للالتفاف على الشرعية الدولية بأمل إطالة فترة تمزيقه نسيج شعبه وبيئته. وهو ما يعود بذاكرتنا حقا إلى عام 2003 عندما عجزت المعارضة العراقية المتشرذمة عن التخلص من صدام حسين وطغمته... إلا عندما وضعت نفسها في خدمة واشنطن وطهران واستقوت بالغزو الأميركي - الإيراني.

اليوم الفارق الأساسي بين «سيناريوهَي» التخلص من نظام صدام حسين ونظام بشار الأسد هو أن واشنطن وتل أبيب تحمستا للتخلص من الأول بالتفاهم مع طهران، لكنهما ترفضان التخلص من الثاني من دون صفقة مع طهران..

عودة إلى نقطة البداية.

المشكلة مع أنظمة كنظام صدام والأسد ومبارك أنها عبر السنين تعمدت تمزيق النسيج الاجتماعي (ولا سيما الفئوي) وتدمير المؤسسات السياسية وتسميم البيئة الثقافية.. بهدف تعطيل آليات تداول السلطة الذي هو المجال الطبيعي المتاح للمواطن كي يمارس حقه في تقرير مصيره. ولقد كانت العلاقة مباشرة بين طول فترة هذه الأنظمة وتفاقم فسادها وظلمها.. وتطرف رد الفعل ضدها. وهذا يعني شيئا واحدا فقط.. وهو أنه ليس صحيحا أن هذه الأنظمة تظل أقل سوءا مما تلاها أو سيليها، بل إن أنظمة كهذه لا بد أن تنتج ردات فعل سيئة... تماما كـ«عهد الإرهاب» في فرنسا.

وبالتالي، هذا الواقع يوفر دافعا أكثر إلحاحا للتخلص منها بدلا من التفكير بإصلاحها تمهيدا للإبقاء عليها.

كل مخاض مؤلم.. لكن الحقيقة أنه لا بديل عنه.