متى يتورط الجيش في مصر؟

TT

أزمة الحكم في مصر خطيرة، ويبدو أن الجيش المصري لا بد أن يتورط فيها برغبته أو من دون رغبته. ترى ما هي الظروف الموضوعية التي تورط الجيش مرة أخرى في السياسة في مصر بعد أن تحرر من هذا العبء وسلم السلطة لرئيس مدني؟

بداية، قناة السويس ستكون تلك المنطقة التي تفرض على الجيش التدخل في السياسة، فهذا الممر المائي العالمي مقنن وضعه بمعاهدات دولية مثل اتفاقية القسطنطينية الموقعة في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1888 والتي تنص على حرية الملاحة في القناة وتعطي لمصر سيادة على القناة شريطة الالتزام ببنود الاتفاق. القضية ليست قانونية حتى لا ندخل في التفاصيل ولكن السماح بالمرور السهل للملاحة العالمية هو أمر سياسي، وفي الوقت الذي تعرضت فيه الملاحة لخطر عام 1956 شنت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل حربا على مصر والتي عرفت بحرب السويس. ليس الهدف من المقال جدلا عن تاريخ مصر وإنما لكي أقول إن الجيش المصري إن لم يتدخل لتأمين الملاحة في القناة فهذا يفرض على جيوش أخرى التدخل، أو أن جيوشا أخرى تجدها فرصة سانحة للتدخل في الشأن المصري على الأراضي المصرية. إذن المسألة ليست إرادة الجيش المصري أو رغبته في التدخل في السياسة التي ستفرض عليه التدخل في منطقة القناة على الأقل. والتدخل هنا سيكون نتيجة لما هو معروف في علم السياسة بفراغ القوة (power vacuum) والذي يعمل كما تعمل المكنسة الكهربائية، بمعنى أن فراغ القوة يقوم بشفط أقرب شيء أو أقرب قوة إليه ويفرض عليها التدخل حتى إن لم يكن التدخل رغبة لها، أي أن الفراغ السياسي والأمني في شرق قناة السويس وغربها لا بد أن يشفط الجيش ويورطه في هذا المشهد المعقد.

المتابع لما يحدث حول قناة السويس منذ بداية الثورة لا تفوته ملاحظتان؛ الأولى هي أن شرق قناة السويس من القنطرة حتى رفح مرورا بالعريش والشيخ زويد وبئر العبد كلها مناطق قلاقل أصبحت السيادة فيها لقوى التطرف من الجهاديين القدامى وجماعات السلفية الجهادية الحديثة والتي أتخمت بالأسلحة المتطورة التي جاءت إليها عن طريق انهيار الوضع في ليبيا وأسلحة أيضا وصلت إليها من غزة ومن السودان ومن إيران. إذن ضفة القناة الشرقية مليئة بالسلاح ومن الممكن لأي من هذه الجماعات أن يغرق سفينة في القناة ويوقف الملاحة العالمية فيها لشهور، أما غرب القناة من دمياط إلى بورسعيد مرورا بالإسماعيلية ثم السويس جنوبا فهي مدن تعاني من احتجاجات وتمرد ضد حكم الإخوان المسلمين مما أدى بالحركات الاحتجاجية في بورسعيد في شمال غربي القناة أن يعلنوا استقلالهم من خلال علم خاص بهم. بالطبع لم يكن الاستقلال حقيقيا ولكن رفع علم خاص ببورسعيد يوضح الصورة. الأمر نفسه من الغضب والاحتجاجات الناتجة عن قتل المتظاهرين بالعشرات في السويس والإسماعيلية أدى إلى مزيد من الاضطرابات. كما أن حادثة الحكم على الذين قتلوا المتفرجين من مشجعي كرة القدم في بورسعيد زادت من اشتعال نيران الغضب. إذن غرب القناة مليء بالاحتجاجات الشعبية، وشرق القناة تسيطر عليه جماعات مارقة. أي خطأ يؤدي إلى إغراق سفينة أو سفينتين في القناة من قبل المتطرفين في الشرق أو الغاضبين في غرب القناة سيفرض على الجيش أن يتدخل لحماية الملاحة العالمية، وإن لم يتدخل فهناك جيوش أخرى مستعدة للتدخل وأولها الجيش الإسرائيلي رغم وجود اتفاقية كامب ديفيد ببروتوكولها العسكري الذي يحدد خطوات الجيشين المصري والإسرائيلي فيما يخص سيناء وقناة السويس.

النقطة الأساسية هي أنه سيأتي الوقت الذي يكون فيه الجيش المصري مضطرا للتدخل من باب فراغ القوة حتى ولو لم تكن تلك إرادته، أو بدافع الغيرة حيث يجب ألا يكون أقل من جيوش الجوار وخصوصا الجيش الإسرائيلي المنافس، ومن ناحية ثالثة لا يقبل الجيش المصري أن تراه القوى العالمية المختلفة على أنه جيش غير قادر على الحفاظ على سلامة أراضي مصر واستقلالها، كل هذه المعطيات ستفرض على الجيش التدخل.

السياق الأهم في كل هذا هو أن قوة جماعة الإخوان المسلمين في حالة شبه انهيار، خاصة نتيجة فشلهم في السيطرة في انتخابات حرة في الجامعات أو النقابات المهنية مثل الصحافيين أو الصيادلة أو غيرها، كما أن شباب الثورة ولو لأول مرة تجرأوا على جماعة الإخوان وتظاهروا بقوة أمام المقر الرئيس لها في المقطم مصحوبا بمواجهات شرسة وحرق لكثير من مقرات الإخوان في المحافظات المختلفة.

جماعة الإخوان المسلمين في تراجع، وشباب الثورة اكتشف أنها جماعة من ورق عندما ذهب إليها في عقر دارها في المقطم، الشباب خدشوا جماعة الإخوان، واكتشفوا أن السيطرة والقوة المدّعاة ليست إلا وهما. لذا سنجد المزيد من التجرؤ الشبابي على الجماعة ومقراتها ومقدراتها. ولم تكن هزيمة الإخوان من قوى الشباب والثورة أكثر وضوحا في أي مكان من مصر أكثر من مدن القناة.

مهم أنه أصبح واضحا أمام الجيش المصري أن ثلث مصر ممثلا في سيناء ومدن القناة أصبح خارج السيطرة، كما أن القاهرة أصبحت مدينة ملتهبة، والدلتا في مناطق مختلفة منها مثل المحلة وطنطا والإسكندرية كلها مدن متوترة. يبقى الصعيد فقط الذي به استقرار ولكنه على برميل بارود قد ينفجر فجأة. كل هذه العوامل محاطة بحالة الانهيار الاقتصادي المتسارع ستفرض على الجيش الذي تخلى عن السلطة طواعية بعد الثورة أن يتدخل، ليس لأن 80 في المائة من المصريين حسب آخر استطلاعات الرأي يطالبون الجيش بالتدخل، ولكن لأن الجيش لا يستطيع أن يتحمل تبعات عدم التدخل فيما يخص استقلال مصر، أو من حيث كرامة الجيش المصري أمام جيوش الجوار.

في مصر تدخل الجيش أصبح ضرورة رغم أنف الجميع.