فقهاء «الإثارة» ومسؤولية الاعتدال الديني

TT

تتطور التحديات يوما بعد يوم في واقعنا المحلي، إلا أن نظرة إجمالية على مخرجات «الخطاب الديني» المؤثر على الشارع تؤكد أن التشدد والتطرف الفكري لم يبرح منصة توجيه هذا الخطاب، لا سيما إذا ما أدركنا أن صناعة هذا الخطاب وتحويله إلى منتج قابل للانتشار عبر مصادر التلقي هو جزء من وهج مرحلة الصحوة وصعود خطاب الإسلام السياسي في مرحلة غاب فيها صوت الاعتدال الشرعي إلا نزرا يسيرا أشبه بصوت في واد.

ما مناسبة هذا الحديث الآن، يمكن الجزم بأن ابتلاع هذا الإيقاع السريع لتطور المجتمع وتحولاته من دون رافعة فكرية سينتج لنا شخصيات مأزومة بين التلقي الواعي لقيم العصر الحديث والارتهان لخطاب متشدد أنتج في مرحلة «مأزومة» بدأت في الزوال، لذلك كل الخطابات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في مشهدنا العربي والمحلي، ما هي إلا جداول صغيرة لا يمكن أن تتحرك مياهها من دون مياه تجديد تصب في النهر الديني.

أحد الأصوات القليلة جدا التي تعبر عن هذه المرحلة - وقد تشرفت بمتابعته - منذ بدايات حضوره الخافت على مستوى التجديد في علم الحديث هو الدكتور الشريف حاتم العوني عضو مجلس الشورى الآن، الذي يمثل صوتا مهما وعالي القيمة للاعتدال الديني في زمن بات فيه من النادر أن تجد من يجمع بين المتانة العلمية التي فقدناها مع تراجع وخفوت صوت المدارس الشرعية الكبرى التقليدية والعريقة، وبين الوعي بمكونات الواقع الجديد وإيقاعه.

الدكتور العوني في صفحته على «فيس بوك» علق على حديث ذاع واشتهر مسجل من إحدى القنوات التي تطرح قضايا وملفات خليجية ويحظى بمتابعة محلية ذكر فيه أحد الشيوخ تعليقه بحضور طبيب متخصص أفاد فيه بأن قيادة المرأة السيارة تؤثر على المبايض وسط دهشة وذهول من الطبيب.

لا يهم هنا استجرار معركة «قيادة المرأة» لأنها لم ولن تكون مسألة «دينية» بالمعنى القطعي، حتى تيار الإسلام السياسي الذي كانت تمثله الصحوة قدمه بقناع «ديني» في الثمانينات، لكن بمضامين سياسية تهدف إلى السيطرة على مفاصل الوعي في المجتمع.

المهم هنا الإشادة بشجاعة الدكتور العوني الذي علق على هذا الحديث المتلفز بقوله: «بمثل هذا ظهر المتطاولون على الشريعة، بمثل هذا سقطت هيبة العلوم الإسلامية».

وهي جملة على اختصارها شخصت الواقع الجديد للخطاب الديني المتشدد والمترهل الذي يحاول البعض الآن إعادته لكن من زوايا اجتماعية بعد أن خرج من المشهد السياسي مثخنا بالجراح لأنه لم يحسن التعامل مع «الربيع».

أما بعد: ففي السابق كنا نعاني من متصدري الفتوى وفقهاء الوجبات السريعة الذين ملأوا الفضائيات، وقد أخذوا حقهم من الدورة التاريخية الطبيعية للجديد من التيارات والأفكار العابرة والوقتية، لكن خلفهم من يمكن تسميتهم بفقهاء «الإثارة» منذ فتوى إرضاع الكبير وحتى المبايض، وقوام هؤلاء هو الإغراب لدرجة قد تصل إلى الإسفاف بعقول الناس فيما يخص المسائل الفقهية المشهورة التي عادة ما يتكرر السؤال عنها.

فقهاء «الإثارة» إن صحت التسمية ظاهرة مستجدة في الخطاب الديني الحديث ألغت دور الواعظ التقليدي أو حتى التي كانت تملأ الفراغ وتسد الفجوة بين العلماء الراسخين والمجتمع الذي كان يعرف خصوصية كل فريق وإمكاناته، فلا يحمل الواعظ الزاهد فوق طاقته باستفتائه في قضايا كبار، لكن ظهور فقهاء الوجبات السريعة ولاحقا فقهاء الإثارة، خلط الأوراق وأحدث ارتباكا كبيرا في الخطاب الديني المعاصر على مستوى المضمون والمرجعية، حتى بات الأمر أشبه بالفوضى على مستوى المفاهيم والتيارات والمجموعات التي يدعي كل منها وصلا بليلى، هذه الفوضى لم تتوقف على مسائل الحياة اليومية مما يمس احتياجات الناس المعيشية ومحاولتهم الدؤوبة لتلمس رؤية دينية تفصيلية عنها؛ بل انتقلت إلى استبدال دور الفقيه والواعظ التقليدي بمرجعية شمولية تتحدث في السياسة والاقتصاد وربما الطب.

سبب تراجع الفقهاء التقليديين وقد كانوا في كل الحقب التاريخية متربعين على سلم الترتيب الهرمي فيما يخص المرجعية الدينية في المجتمعات الإسلامية يعود إلى أسباب كثيرة ومعقدة أبرزها هو أن جزءا من ممانعة الإسلام السياسي والتطرف الأصولي ساهم في إهمال صناعة «الفقيه» والصناعة هنا ليست مجرد التبني الواعي، وإنما الحفاظ على التقاليد العريقة لإنتاج القامات الفقهية الكبيرة، في المقابل سهولة صناعة الداعية اللقب الذي يمكن أن يحصل عليه «مفحط تائب» خلال أسابيع، وهنا يجب التمييز بين الفقهاء والدعاة، باعتبار أن الفقيه هو منتج للفتوى، بينما الداعية ناقل لها، ولكن ارتخاء وضمور النظر الفقهي عن ملاحقة إيقاع العصر السريع والآني، إضافة إلى بيروقراطية جهاز الفتوى في كثير من المؤسسات الدينية في العالمين العربي والإسلامي أفرز لنا واقعا مشوها تخلى الفقيه فيه عن دوره في المسائل الحضارية المعاصرة، بحيث اقتصر دوره على الترجيح وإعادة الإنتاج لمسائل فقهية قديمة من دون التدخل في تبيئتها لهذا العصر، بينما تحول الدعاة الجدد بأنواعهم المختلفة إلى قيادات فكرية تتولى قيادة الخطاب الديني العام، وهنا الأزمة التي يرافقها ارتفاع الطلب وقلة العرض، ومع توالد القنوات الإعلامية وكثرة الطلب على البرامج الدينية بات الأمر يقترب من حدود «الكارثة» لكن لا يلتفت لها بحكم أن «الشهرة» في النهاية تصب لصالح عدد محدود من قائمة الطارئين على مجال «الفتوى» والبرامج الدينية.

هذه أزمة لا تقف عند حدود مشهد إسلامي معين، هي موجودة في واقعنا المحلي، يعاني منها الأزهر الآن، تظهر جلية في مشهد تونس بعد صعود النهضة، ولا تخلو منها حتى مراكز الفتوى الدينية في أوروبا، وربما كانت الدول الإسلامية النائية والغائبة عن المشهد محافظة إلى حد ما على تقاليد وتراتبية التأهيل الديني ورتب المفتي والفقيه وإمام الجامع لكن هذه الدول سواء المستقلة عن روسيا أو بعض الدول الأفريقية والآسيوية ليست مؤثرة على خارطة الخطاب الديني المعاصر الذي لا يمكن التأثير فيه من خارج المدارس السلفية لأسباب ليس هذا محل بسطها، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

[email protected]