الثأر الصحي!

TT

هل هناك شيء من الممكن أن يطلق عليه «الثأر الصحي»؟ أعتقد أننا بحاجة لتحدي مفهوم فكرة «الثأر» وما يأتي معها من صورة ذهنية شديدة السلبية، فهي مرتبطة دوما بالصورة الدموية الانتقامية البشعة، ولكن دعونا نتأمل قليلا فكرة «الثأر الصحي» بصورة مغايرة قليلا بعض الشيء ولنتأمل قصة النجاح الحضاري والاقتصادي المبهر لكوريا الجنوبية، فها هي الدولة الصغيرة بمساحتها وعدد سكانها تتعملق وتذهل العالم بنجاحها الهائل في مجالات صناعة السفن والسيارات والشاحنات والآليات الثقيلة والهواتف الجوالة والأدوات المنزلية وقاطرات السكة الحديدية والمقاولات وأجهزة الحاسب الآلي والتقنية الحديثة والألعاب الإلكترونية والسينما والغناء وصناعة الترفيه والسياحة.. حققت كوريا الجنوبية هذا الإبهار، لكنها كانت مدفوعة حتى «الجنون» بالثأر والانتقام من اليابان، فاليابان احتلتها واستعمرتها، كل ذلك ولد رغبة عظيمة لدى الكوري في التفوق على اليابان، فبدلا من الدخول في مواجهات عسكرية ركزت كوريا الجنوبية على «تقليد» النموذج الياباني للأعمال حرفيا وإتقانه ومن ثم التفوق عليه عمليا. واليابان كان لديها نموذج الأعمال الخاصة بشركاتها العملاقة والمسماة «السوجاشوشا» وهي عبارة عن مجموعة الشركات اليابانية العملاقة المعنية بالإنتاج والتسويق لكافة ما تنتجه مصانع وشركات اليابان، شركات مثل: «ميتسوبيشي» و«ماروبيني» و«سيب إيتوه» و«ميتسوي» وغيرها، وأوجد الكوريون بدورهم النموذج نفسه وأطلقوا عليه اسم «الشايبول» وهو يؤدي نفس الغرض وكان مؤسسا من قبل شركات مثل «دايو» و«سامسونغ» و«إل جي» و«هيونداي» وغيرها.

اليابان نفسها ونجاحاتها التي وصفت ذات يوم بالمعجزة اليابانية الاقتصادية، هي عبارة عن نتاج لفكرة الثأر الصحي.. اليابان بعد أن كسرت وسحقت عقب الحرب العالمية الثانية على أيدي الولايات المتحدة وحلفائها وتعرضت لسابقة مهولة تمثلت في إسقاط قنبلتين نوويتين على مدينتين فيها هما هيروشيما وناغازاكي، وقيام الجنرال الأميركي المسؤول عن الحرب على اليابان، ماك آرثر، بتفتيت شركات وإعادتها لمراحل الضعف الفردية، تفرغت للثأر الصحي من الولايات المتحدة، فقامت شركاتها بتحسين أدائها وتطورها حتى سيطرت على سوق السيارات ماركات مثل: «تويوتا» و«هوندا» و«نيسان» و«مازدا» و«سوبارو» و«ميتسوبيشي»، و«إيسوزو»، و«دايهاتسو» بعد أن كانت جميعا مثارا للسخرية والنكات والطرائف، وليت الأمر بقي على هذا الحال، إلا أنه مع مرور الوقت تحولت سيارتا «كورولا» و«كامري» إلى أنجح وأهم سيارتين في الولايات المتحدة وبنيت المصانع تلو الأخرى للماركات اليابانية في الداخل الأميركي وتحديدا في جنوبه، وباتت صناعة السيارات في الجنوب الأميركي يشاد بها وأنها رمز التطور، وعلى العكس من حال مصانع الشمال المعروفة لـ«جنرال موتورز» و«فورد» و«كرايزلر»، وتحولت هذه المصانع إلى «آلة» تصدير لماركات يابانية عملاقة ذات منشأ أميركي، والشيء المبهر الجميل ذاته انطبق على شركات الأجهزة المنزلية التي شهدت تفوقا هائلا في الاختراع والتطوير والتبسيط منذ أن اخترع مؤسس شركة «سوني» أكيو مورينو جهاز الراديو الترانزستور وجاءت بعده سلسلة من الاختراعات الناجحة المبهرة من أشكال «الووكمان» و«البلاي ستايشن» و«كاميرات السناب شوت» والكومبيوتر المحمول «الفايو» والتلفزيونات، وطبعا كانت هناك مجموعة غير بسيطة من قصص النجاح من «جي في سي» و«شارب» و«باناسونيك» و«بايونير» و«كينوود»، وفي مجالات الأجهزة المكتبية والكاميرات كان التألق لعملاقة «كانون» و«نيكون» و«مينولتا» وغيرها. أتأمل في هذه الأمثلة وأرى الحال العربي - الإسرائيلي ولماذا لم يحصل للعرب فرصة القيام بالثأر الصحي من إسرائيل بدلا من اللجوء «فقط» إلى المقاطعة؟ المقاطعة طبعا مطلوبة ومطلوبة جدا، فإسرائيل نظام مجرم وعنصري مثله مثل جنوب أفريقيا الذي قوطع من العالم اقتصاديا لأسباب أخلاقية، إلا أن العرب بمقاطعتهم جعلوا إسرائيل تقع في أحضان الغرب، فتطورت صناعتها لصالح الدخول في أسواقهم كمورد وكمصنع للسلع والخدمات، وكان نتاجه التطور الذي حصل لهم بينما تخلف العرب في «ذات» الصناعات التي تطورت فيها إسرائيل مثل التقنية الحديثة والدوائيات والري والإلكترونيات الدفاعية والأمن والتسليح، فلا يوجد قطاع تتفوق إسرائيل فيه اقتصاديا لدى العرب منتج أو شركة تنافس فيها معها، ولو كان ذلك حصل لكان هناك «إنجاز» يمكن الافتخار به على أقل تقدير.