الكهرباء ورئيس الوزراء!

TT

في أيام الرئيس حسني مبارك كانت الشكوى الدائمة هي أن الوجوه لا تتغير، فبعض الوزراء استمروا لأكثر من عقدين، وبعض رؤساء تحرير الصحف القومية وهيئات وشركات عامة استمروا لأكثر من ربع قرن، ورئيس الوزراء عاطف صدقي استمر في منصبه تسع سنوات، أما أحمد نظيف فكان نصيبه ستا فقط. تغير الحال الآن، ومنذ بداية عصر الثورات لم تكمل وزارة سنة كاملة، وبات صعبا على العامة والخاصة التعرف على أسماء الوزراء، فضلا عن المحافظين أو رؤساء الهيئات. في حالة مبارك كان الوصف من المؤيدين هو الاستقرار، أما من المعارضين فكان الركود والجمود؛ أما بعد «خلعه» فلا توجد كثرة من المؤيدين لأي شيء، ومع ذلك فإن المتعاطف مع الحالة يصف الوضع بأنه نوع من الحراك السياسي، أما المعارض، الذي أصابه الصداع من كثرة التغييرات بينما تبقى الأحوال على حالها، فإنه يصفه بالفوضى.

آخر التغييرات الكبرى في مصر كان تشكيل وزارة المهندس إبراهيم محلب، وهو رجل له تاريخ مرموق بالحركة في العهد السابق، وممتلئ بالفاعلية في عهد الثورات، لكنه الآن وبعد أسابيع قليلة من توليه السلطات العليا في مصر، أصبح عليه أن يواجه كل ما واجهه أسلافه من رؤساء الوزارات. هؤلاء جميعا واجهوا تحديات ضخمة، لكن ربما كان أكثرها خطورة على بقاء الرئيس أو الوزارة كلها هو الكهرباء، التي بدأت في الانقطاع عن أهل المحروسة ساعات قليلة كل أسبوع، ثم بعد ذلك زادت المدة لكي تتراوح ما بين 4 و6 ساعات يوميا. ولما كان أكثر من 90 في المائة من المصريين، فقراء وأغنياء، يعتمدون على الكهرباء في أمور شتى من الإنارة بالطبع حتى حفظ الطعام ومشاهدة البرامج الحوارية الكثيرة، فإن انقطاعها يخلق حالة ثورية جديدة.

شهر العسل بالنسبة للوزارات بات قصيرا للغاية، فنوبة التفاؤل بالوزارة الجديدة تنتهي بسرعة، ربما لأن العامة والخاصة لا يعرفون عما إذا كانت الوزارة جديدة فعلا، أم أنها تجديد لوزارة سابقة. لكن المعضلات دوما تبقى كما هي، لأنها ذات طبيعة بنائية لا تختفى بمجرد تغيير الأسماء، فالمسألة هي أن المصريين يزيدون بمعدل قدره 4.2 في المائة سنويا، وهو ما يعني قرابة مليونين كل عام، وهؤلاء يطلبون أمورا كثيرة تقع في مقدمتها الكهرباء، التي ربما من دونها لا يرى الجميع بقية المشكلات في التعليم والصحة والعمل. لكن الكهرباء لا يتم توليدها إلا بالطاقة غازا ونفطا، وهذه باتت شحيحة في مصر، ومن ثم كان الاختيار الصعب: إما أن تذهب الطاقة إلى المصانع والمزارع والمواصلات، أو أن تذهب إلى الشعب. أمران كلاهما مر وعلقم، والحل هو أن توزع الكهرباء بين الناس والإنتاج، وفي النهاية لا يحصل الأولون على ما يحتاجونه، أما الآخرون فيأخذون اقتصاد البلاد إلى أسفل السافلين. النتيجة هي توليد نوعين من الاحتجاج في مصر: احتجاج على غياب الكهرباء، واحتجاج لأن الأجور شحيحة، لأن المصانع لا تعمل على الإطلاق أو بكامل طاقتها في أحسنها.

لكل مشكلة حل بالطبع، وكانت هذه المعادلة الكهربائية صعبة حتى قبل عهد الثورات، لكن الحل كان أولا أن يعمل قطاع الكهرباء بطريقة اقتصادية وعادلة، فمن يستهلك أكثر عليه أن يدفع أكثر، وكان ذلك كافيا ليس فقط لأن تحصل المصانع على احتياجاتها، بل وأن يحصل الناس على حالة من الإنارة الدائمة، وأكثر من ذلك، فإن مؤسسة الكهرباء الخاسرة دائما، حققت فائضا في بعض السنوات. ولما بدأت الاحتياطيات المصرية من النفط والغاز في التراجع، جرى اقتراح استخدام الفحم الأرخص سعرا، الذي ثبت أنه أيضا متوافر، لكن جماعة البيئة في مصر تشبهت بمثيلاتها في الدول المتقدمة، فاعترضت ورفضت، فانقطعت الكهرباء، وبقيت مصر ملوثة في كل الأحوال.

الآن هناك عودة للفكرة، وفي مصر يقولون «مكره أخاك لا بطل»، لكن القرار جاء متأخرا، ويحتاج وقتا، فالمصانع ومحطات توليد الكهرباء لا تتغير بين يوم وليلة، لكنها تحتاج وقتا واستثمارات، ووزارة المهندس إبراهيم محلب ليس لديها أي منهما، لا الزمن ولا المال. في العهد السابق أيضا طرح حل جوهري هو أن يقوم القطاع الخاص، بالشراكة مع القطاع العام، بإقامة مشروعات البنية الأساسية بما فيها الكهرباء. هذا الأسلوب نجح بشدة في قطاع الاتصالات وفي إقامة مدن جديدة، وكان من الممكن أن ينفذ في قطاع الكهرباء أيضا، فتصير وفرة بعد ندرة. لكن الزمن الثوري لديه مشكلة نفسية مع القطاع الخاص، وكان على المهندس إبراهيم محلب أن يحلف بأغلظ الأيمان، أن وزارته لا تضم رجل أعمال واحدا، أي عمليا لا تضم مستثمرا واحدا، ومن ثم باتت وزارة للمستهلكين، وهؤلاء هم الآن من يثورون عليه.

هذا الوضع غير مريح لوزارة جديدة جاءت بينما الانتخابات الرئاسية على الأبواب، ومن بعدها الانتخابات النيابية، ووسط أزمة أمنية وأخرى اقتصادية، لكنها تستطيع إغماض العين عن كل شيء إلا الكهرباء. الحالة المصرية هكذا يمكنها أن تعطي دروسا كثيرة لبقية المنطقة العربية، وببساطة، وحتى لو كانت الموارد المالية متوافرة، فإن البنية الأساسية تحتاج إلى معالجة مستمرة لا يمكن توافرها إلا من خلال القطاع الخاص. وليس صدفة أنه في كل البلدان المتقدمة فإن المرافق العامة كلها من مطارات وموانئ ومحطات طاقة كلها في يد القطاع الخاص، الذي فوق أنه أكثر كفاءة في إدارتها، فإنه يدفع الضرائب للدولة فيسد عجزها أو بعضا منه على الأقل، ويزيد من معدلات التشغيل المنتج، وهكذا فوائد.

مصر معمل ضخم للتجربة، وفيها كل المشكلات متراكمة، رغم أن كل الحلول متاحة.. وبشكل ما فإنهما لا يلتقيان كثيرا. الآن هي تدخل اختبارا تاريخيا لإدراك هذه اللقاءات بين المشكلات والحلول، والاختبار التاريخي هذه المرة لا يعتمد على عنصر الزمن الممتد الذي ظن المصريون دائما أن لديهم فائضا منه، لكنه يعتمد على زمن محدود تتخذ فيه قرارات صعبة. ولو أن رئيس مصر القادم أو الحالي أو رئيس وزرائها لديهم العزم السياسي اللازم، فربما لم تكن هناك حالات الاختناق الجارية، ليس فقط في الكهرباء ولكن في كل الأمور الأخرى من المياه إلى المجاري إلى المخلفات. مفتاح كل هذه الموضوعات هو أنها ليست مشاكل، وإنما حلول واستجابات لاحتياجات المجتمع، وإذا ما دخلت إلى «السوق» فإنها تصبح موارد وأموالا وفوائض، وجزءا من حلقات الإنتاج والتصدير والأرصدة الاقتصادية والاجتماعية. سقوط وزارة المهندس إبراهيم محلب بسبب أزمة الكهرباء لن يفيد شيئا، ولن يجعل الظلام نورا، وإنما سوف يضيف إلى ارتباك زاد عن حده ولفترة طويلة، وربما عندما يكون في البلاد رئيس منتخب تنصلح الأحوال. اللهم آمين.