الصين الرأسمالية!

TT

تناقلت وكالات الأنباء بسرعة الضوء خبر شراء رجل أعمال صيني لقدح من الخزف يتجاوز عمره الخمسمائة عام ويرجع لحقبة مملكة «مينغ» العريقة في التاريخ الصيني وتحديدا في حقبة شينغهوا التي تؤرخ أنها بين فترتي 1465 حتى 1487. ولكن أهم ما ورد في هذا الخبر كان قيمة المبلغ الذي تم دفعه وهو ما يقارب الـ22 مليون جنيه إسترليني، إن هذا ببساطة شديدة دليل جديد على مدى توغل الرأسمالية في الصين اليوم.

اليوم الصين هي أكبر بلد يخرج للعالم «مليونيرات جددا». فالبلد يشهد صناعة ثروات متواصلة منذ عقدين، ونسب نمو اقتصادي هائلة جعلت من البلد ثورة معمارية غير مسبوقة وأصبحت باختصار «ورشة العالم الاستهلاكية الأولى»، وهي تشهد نموا تصاعديا في الهجرة إلى مدنها بل إلى «تأسيس مدن جديدة» تساعد على استيعاب الهجرة الهائلة من الريف طلبا للوظائف المغرية والعوائد المميزة والحياة الأفضل، حتى تحولت الصين نفسها إلى سوق استهلاكية للداخل مع تزايد مهول في طبقات المواطنين الذين تحسنت مداخيلهم وبالتالي تحسنت قدراتهم على شراء ما لم يكن بالإمكان أن يحصلوا عليه سابقا.

أكثر من مركز صناعة قرار وجامعة في الغرب يحاول تفسير هذه النوعية الخاصة جدا من الرأسمالية، والمسماة أدبا بالرأسمالية الصينية نظرا لأنها ليست كالرأسمالية الليبرالية التي يعرفها الغرب وتعود عليها وحاول أن ينشرها حول العالم والمعتمدة أساسا على نشر الحقوق والحريات تماما مع نشر فكرة ومبدأ السوق الحرة والمفتوحة. ولكن هل الرأسمالية بعيدة عن الثقافة الصينية أساسا؟ يبدو أن هذا السؤال محوري جدا لاستيعاب ما يحصل في الصين اليوم، فالصين كانت جزءا حيويا جدا من خط الحرير القديم، وهو أول خط تجاري عرفه العالم بمفهوم «العولمة» العصري اليوم، فلقد كانت الصين تصدر للعالم الحرير والقماش والورق والشاي والبهارات والأخشاب، وانتشر الصينيون حول العالم بشكل مدهش، وخصوصا بعد «الثورة الثقافية» التي قادها ماو تسي تونغ وتسببت في هجرة الملايين إلى كل أنحاء العالم وأقاموا في المدن الكبرى، والـ«غيتو» عرفت دوما بمدينة الصين China Town، وكانت دوما ما تشهد إقامة مطاعم صينية ومغاسل بالبخار وصيدليات الأعشاب والطب البديل، وتكرر هذا النموذج بنجاح في معظم العواصم الغربية حول العالم، مؤكدا بالأدلة وجود ثقافة الرأسمالية عند الصينيين منذ القدم من الأزمان.

ما يحصل الآن هو أن الصينيين رغم انتمائهم «رسميا» إلى الحزب الشيوعي باعتباره الحزب الحاكم الوحيد في البلاد، فإن الرأسمالية تجري في دمائهم وبلادهم منفتحة للمتاجرة مع العالم بأي شكل بداية من وجود مطعم صيني في كل مدينة وقرية حول العالم مرورا بتصنيع السيارات والهواتف والثلاجات والمفروشات وأي سلعة أخرى قابلة للاستهلاك.

يخشى العالم أن يتحول المذاق الصيني بالتدريج باتجاه اللحم البقري (وهو نوع من المأكولات لا يألفه الصينيون كثيرا) فيزداد بالتالي الإقبال على اللحم البقري الذي يستهلك الأعشاب ويتطلب كما مهولا من المياه للأعلاف والرعاية فيؤثر ذلك على احتياطي المياه العالمي الدقيق وذلك رغم آمال منتجي اللحوم البقرية في ذلك السيناريو المثالي جدا لهم ولكنه سوف يصبح وضعا كارثيا لو تحقق. ورغم الطفرة الهائلة التي تشهدها الصين فإنها معرضة لهزة حقيقية بدأت بعض المصارف الاستعداد لها، إذ يعتقد الكثيرون من الخبراء الماليين والاقتصاديين أن الصين توسعت أكثر بكثير من طاقة سوقها وسوق العالم أن تتحملا ذلك، لأن «العرض» الذي بنيت عليه توقعات الصين أكثر بكثير من «الطلب» الحقيقي مما يعني أن هناك «فقاعة» مهولة تتكون. هذه مقولة ليست جديدة ولكن هناك علامات باتت واضحة ولا يمكن إخفاؤها وذلك بحسب فيلم وثائقي مهم عرضته محطة الـ«بي بي سي» البريطانية يوضح حالات التأخر لدى شركات المقاولات الصينية في بلادها في مشاريع عملاقة ونوبات الهلع التي أصابت المصارف.

كرة الثلج الصينية بدأت تتشكل، وإذا كنا نعتقد أن أزمة اليورو الأوروبية تسببت في المشكلة المالية التي حدثت على مستوى العالم، فهي ستكون أشبه بنزهة بحرية مقارنة مع زلزال الصين المالي على العالم.