هل سقط «التعايش» في العراق؟

TT

عنوان المقال هذا كان سؤالا لصحيفة عربية وجه إلى رئيس إقليم كردستان مسعود بارزاني قبل بضعة أيام، ورد عليه بطريقة هادئة تتناغم ورؤيته للأحداث وللعلاقة بين الإقليم الكردي والعراق بهويته العربية، وتأسيسا على تاريخ عمل سياسي ومسلح طويل، سعيا إلى إقامة دولة كردية، تبقى حلما كرديا مشروعا قد لا يتحقق في حقبة بارزاني، خصوصا في ظل انقسام سياسي كردي. وهناك أطراف من عرب العراق تؤمن بمقولة «سقوط التعايش»، نتيجة المعاناة أحيانا، وبسبب ضيق الأفق وقصر النظر وسوء تقدير المخاطر أحيانا أخرى، وأخص منهم ذوي الأنغام الطائفية، دون حسابات أمنية وعسكرية، ويسطرون الآراء والحلول على أساس التمنيات، وتغذيهم أطراف داخلية وخارجية وجدت بين العراقيين من يصلح لقتال الإنابة.

وحيث يمر العراق بمرحلة انتخابات لا أراها كما وصفت بـ«المصيرية» - فهي محطة من محطات التغيير - فمطلوب من الحكومة المركزية ومن المرشحين إعلان موقفهم بوضوح حيال وحدة العراق، والتأكيد على أن التعايش الوطني مصيري وأبدي وغير قابل للاجتهاد والتفسير، لأن الخلل فيه تتولد عنه كوارث لا حدود لها يدفع ثمنها الجميع. فالعراق ليس لوحة رسم يمكن اللهو بتقطيعها إلى قطع نظرية بخطوط مستقيمة ولا متعرجة، «باستثناء إقليم كردستان، الذي ستبقى حالات الشد في العلاقات بينه وبين المركز مرهقة لروابط التآخي التاريخية».

الموقف الشيعي واضح تماما، أما الموقف السني، الذي يحلو للبعض تسميته هكذا، فقد حيرنا المتحدثون بفقدانهم البوصلة والموقف الواضح، وهذا «البعض» يهتز وجودهم وتتغير مواقفهم أمام من يلوح لهم بحفنة دنانير «والحفنة اليوم أصبحت مليارات»، ولنتصور أن رئيس وحدة إدارية بمستوى محافظة يمكنه التلويح بهذا الحجم، بعد أن كانت حساباته المالية صفرا! ولا أستثني «إسلاميين سياسيين» يصدرون لأنفسهم الفتاوى. و«القائمة العراقية» ذات الصبغة «السنية» أصبحت شذر مذر، ولا تصدقوا من يصف هذه الحال بالتكتيك. مع ذلك، فكل تفكك كتلوي يعزز وحدة العراق، إذا ما تفاعلت كل المجموعات والأطراف بطريقة واقعية وإيجابية.

وبدل التصعيد اللفظي، كان مفترضا الثبات على موقف وطني بعيدا عن المصالح الشخصية والحزبية والكتلوية، والعمل بكل الوسائل الممكنة لضمان التنسيق بين الكتل والبرلمان والحكومة، لمجابهة أعمال الإخلال بالأمن وحالات تفشي الفساد في المحافظات خصوصا. ومن هنا يجري الانطلاق نحو انتخابات متوازنة، على الرغم من أن الشعب أصبح مغلوبا على أمره في الاختيارات، لأن المفسدين أصبحوا يمتلكون عناصر التأثير، فمن أين يأتي التغيير؟ ومع عدم الرغبة في الصد عن الحقائق المؤلمة على الأرض، فإذا ما أدرك سياسيو محافظات غرب بغداد وشمالها عمق الخلافات بين الكتل الشيعية، وهي حالة صحية تدل على أن الجوهر الأساسي للخلاف القائم بين الكتل ليس طائفيا، بل إنه خلاف سياسي، فستكون مراجعة المواقف طريقا صحيحا للوصول إلى حلول معقولة وليس للتصعيد.

وعلى الجانب الكردي، فالسياسيون الأكراد يتمتعون بخبرة طويلة في العلاقات الداخلية والخارجية، ويحرصون على دبلوماسية هادئة بعيدا عن التصعيد اللفظي الجارح، ولم يعد لهم موقف ضد شخص معين إلا بقدر تأثيره على أهدافهم الاستراتيجية، وهم مستعدون لتطوير أو تغيير تحالفاتهم والنزول عن موقفهم أو الصعود به طبقا للمعطيات. وهذه هي السياسة، عملا بقاعدة «لا صداقات ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة»، فيمكن أن تتفق الكتل الكردية مع من يلبي نسبة أعلى من مطالبها وطموحاتها، وهذا يساعدهم في تحقيق مزيد من المكتسبات.

لكن الدور الكردي يرتبط تأثيره بمدى الاتفاق على حل الخلافات «الصعبة» ضمن الإقليم، بسبب الخلاف على منصب رئيس الجمهورية، ورئاسة الإقليم، ورئاسة الأمن والمخابرات، والداخلية، والبيشمركة، والمالية، وطبيعة النظام. وحتى الآن تشير الأخبار إلى تحقيق نوع من التقدم، إلا أن المسألة ليست سهلة، فالأنداد السياسيون - وربما الخصوم - متمرسون ويتمتعون بقدرات مالية أو شعبية قوية، ويمكن لأي طرف منهم الإخلال بسياسة الطرف الآخر في بغداد، مثلما عطلوا تشكيل الحكومة المحلية لأطول فترة شهدها تشكيل حكومة في العراق.

حتى الآن، لم يعط الأكراد توضيحا عن حليفهم المفضل في بغداد، ولم يعترضوا على ولاية ثالثة لرئيس الوزراء، وفي المحصلة، وإذا ما حلت خلافاتهم المحلية جذريا، فسيجري ترشيح رئيس الإقليم مسعود بارزاني ليكون خليفة للرئيس طالباني في رئاسة الجمهورية لولاية قابلة للتجديد.