شعارات لم يعد يصدقها أحد

TT

مأزق بعض المعارضة في تعاطيها مع الوضع الراهن في البحرين يمكن تلخيصه في جملة واحدة وبوضوح وصراحة: افتكاك السلطة بالمغالبة والتحشيد والتحريض، أو الذهاب بالبلد نحو الجدار، تحت عنوان: «إما نحن وإما هم»، وما عدا ذلك فتفاصيل واستعارات وكنايات وتلاعب بالكلام والشعارات!!! هذه المعادلة تفضي بالضرورة إلى المواجهة، التي تلحق الضرر بالجميع.

هنالك فرق كبير بين أي جهد من أجل تحقيق الديمقراطية وتعزيزها، وبين السعي المستميت إلى افتكاك السلطة (وليس إصلاحها) واستخدام كل الآليات والأدوات المشروعة وغير المشروعة للوصول إلى الهدف، بعد تسويقها وتكييفها ومنحها الشرعية، بما في ذلك الدفع بالناس نحو المغامرة والمجهول، وحتى إلى الموت المجاني في اتجاه مغالبة الدولة والآخرين وحشرهم في الزاوية.

وهنالك فرق بين منطق الإصلاح السياسي والحفاظ على المكتسبات وتعزيزها وتطويرها، بالتلطف والاستماع والتدرج والحوار، وبين ادعاء القوة والامتلاك والشرعية والرغبة المطلقة في السيطرة والافتكاك بين الهروب الدائم إلى الأمام والسعي إلى فرض الإرادات دون أي اعتبار لبقية المكونات، وفرق بين أن نكون جزءا من الحراك السياسي، وبين أن نعتقد أننا الحراك برمته، وأن ندعي الزعامة المطلقة المقدسة، وبين من يعتبر نفسه جزءا من كل، وبين من يرى نفسه الكل في الكل ولا شيء غيره، وبين من يرى نفسه مواطنا عاديا يخضع للمحاسبة والمراجعة والمناقشة، وبين من يرى نفسه مواطنا فوق العادة غير قابل للمخاطبة والمناقشة والمراجعة لا يدركه الباطل في كل الأحوال، فكأنه منزه.

هذا هو المأزق الحقيقي الناجم عن اختيار هذه الوثبة العدمية في السياسة، بحشر الدولة والمجتمع في الزاوية، ودون التفكير بالاستتباعات القريبة والبعيدة بالتحليق خارج الفضاء العقلاني - الإصلاحي الرّحب، بما يقودنا على الأرجح إلى «انسداد الآفاق»، وهي على ذلك لا يبدو أنها تدرك أو تهتم بأن ما أنتجه المسار السياسي المحلي من تباينات وحتى صراعات يجب أن يكون في النهاية اختلافا داخل ثوابت وتوازن، أما ما أتحفونا به ضمن المسار العدمي فيقع خارج الأدنى الحداثي – العقلاني الذي أنتج توافقا وطنيا وتجربة تعدّدية قابلة للتطوّر خارج الانفعالات.

المشكلة في النهاية أن الطائفية - بوعي أو بغير وعي - تسهم في تقسيم المجتمع عنوة وبتجاوز غريب، إلى فئة مظلومة ومحرومة ومقهورة وفئة مستفيدة من الوضع القائم، وبناء على هذا التقسيم الطائفي (الحديث هنا عن طائفة وليس عن طبقة اجتماعية بكل ما يحمل ذلك من تضليل).. تم حشر المجتمع برمته في زاوية ضيقة، مدججة بالشعارات والمطالب التي ترى دونها الموت، وقررت أن على الجميع أن يستجيب لهذه المطالب وإما نشر الخراب المقيم وإشاعة الفوضى وتخريب الاستقرار الاجتماعي وإحداث شلل في الاقتصاد، وجر الدولة إلى «حرب شوارع» يومية..

لا مبرر من وجهة النظر العلمية لتقسيم المجتمع على أساس طائفي وبناء النظام الفكري والسياسي والعقدي بأكمله على أساس طائفي، مثلما هو حاصل حاليا في «البرنامج - آليات وشروط الانخراط في الجمعيات الطائفية غير المكتوبة - تبوّء المناصب - الترشح للبرلمان وللبلديات..».، ولكن للأسف فإن جميع الأحزاب الطائفية تتبع نفس النهج ونفس المنطق، وإنها لم تنجح سوى في تقسيم المجتمع والوصول به إلى الورطة الحالية، وتزيد هذه الجمعيات عن الآخرين بهذه الحدية في الطرح، وهذا الأسلوب عالي النبرة والاستفزازي عند الحديث عن «الثورة» والحديث عن المظلومية والتمييز، بما يجعلها في تقاطع تام مع تاريخ آخر لا اسم له سوى تاريخ الأوهام، الذي تصول وتجول فيه الكتابات والتصريحات والخطب الطائفية المتكاثرة هذه الأيام، وهذه الكتابات والبيانات والتصريحات التي تعي طائفيتها فتعمل وتتحرك تحت شعار «إما نحن وإما هم»، وبعضها يبدو أكثر حياءً بمسميات وشعارات لم يعد يصدقها أحد، ولا يصدقها الواقع..

* كاتب بحريني