السياسة الأميركية سارت على نهج الليبراليين على مدى 70 سنة

TT

المحافظون في الكونغرس هم المتهمون الرئيسون في سوء أداء واشنطن. ووصف اثنان من قدامى لجنة الرقابة في الكونغرس وهما نورمان أورنشتاين وتوماس مان الدورات السابقة بأنها «أسوأ كونغرس على الإطلاق»، ولم يترددا في تحديد اللوم إذ قالا: «الجمهوريون هم المشكلة». فبعد عملية الغلق الحكومي الفاشل الخريف الماضي، حتى رئيس المجلس جون بينر انتقد المجموعات المحافظة وأجاز مشاريع القوانين أمام معارضة كتلته.

وردا على ذلك ادعى المحافظون ادعاءين بسيطين: معظم السياسات التي تجري حولها المناظرات ليبرالية، وقادة الجمهوريين يضحون بالمبادئ المحافظة عندما يتنازلون. ويشير التاريخ إلى أنهم محقون في الحالتين.

بحثت في مئات من كتب التاريخ التي تتناول السياسة العامة الأميركية منذ عام 1945، وتتبعت أكثر التغييرات الداخلية أهمية والتي أصبحت قوانين، والشخصيات التي أرجع لها المؤرخون الفضل في تلك التغييرات، ووجدت أن واحدة من خمس سياسات فقط من بين 509 من أهم السياسات الداخلية التي أصبحت قوانين كانت محافظة، بحيث إنها ضيقت مجال التمويل أو القواعد أو المسؤولية الحكومية. وكان أكثر من 60 في المائة منها ليبراليا، وسعت الحكومة بوضوح. أما البقية فمزجت بين مكونات ليبرالية ومحافظة أو لم يكن لها اتجاه آيديولوجي واضح. وعندما يحدث تغير سياسي مهم في المجال التنفيذي، يقل احتمال أن يكون محافظا، فلم يكن سوى 10 في المائة فقط من الأوامر التنفيذية وقواعد الوكالة التي استشهد بها المؤرخون محافظة، وحتى وصف التوسعات في السياسة الحكومية بأنها محافظة بهدف تحقيق أهداف محافظة، مثل القيم التقليدية أو العقوبات الأشد، لا يؤثر كثيرا على هذه الخلاصة، فالقليل جدا من التغييرات السياسية يندرج تحت هذه الفئة، على الرغم من أننا نسمع عنها كثيرا خلال الحملات. ولا عجب أن يلعب الليبراليون دورا أكبر في إدخال سياسة جديدة. وينسب المؤرخون للمجموعات الليبرالية من الفضل في تغيير السياسة ضعف ما ينسبونه للمجموعات المحافظة. كما لعب السياسيون الديمقراطيون أدوارا أكثر تواترا. ودعم أكثر الجمهوريين نشاطا مثل الرئيس الراحل ريتشارد نيكسون والنواب جاكوب جافيتس وبوب دول في الغالب تغييرات السياسات الليبرالية والمختلطة، وليس التغييرات المحافظة. وكان دور الجمهوريين في السياسة يعني القيام بتسويات مع الليبراليين لتوسيع الحكومة أو تقليصها في موقع ما من أجل توسيعها في موقع آخر.

هناك سبب وجيه لاتهام المحافظين دائما بالتعويق. وعندما تكون الحكومة أكثر نشاطا، عادة ما تتجه بسياستها يسارا. فعندما ضاعف الكونغرس من نشاطه المعتاد أجيزت الكثير من القوانين الليبرالية وليس بالضرورة المزيد من القوانين المحافظة. ولم تكن هناك سوى دورة واحدة للكونغرس كانت نشطة ومحافظة في ذات الوقت، وهي فترة السنتين بعد تولي الجمهوريين السلطة عام 1994، ولكنها لم تستمر طويلا. وخلال حكم الرئيس الراحل رونالد ريغان قام الفرع التنفيذي بالمزيد من التغييرات السياسية المحافظة، ولكن خلال العامين الأولين فقط من فترته الرئاسية. ويعني صنع السياسة المنتج المزيد من الإنفاق الداخلي والمزيد من قواعد إدارة العمل والمسؤولية الحكومية الأكبر.

ليست هذه الاتجاهات من صنع منظور مؤرخين سياسيين متفردين، إذ توصلت تحليلات أخرى لقوانين رئيسة أجراها خبراء وحددها صحافيون، إلى نتائج مماثلة ولكنها أقل محافظة من حيث سن القوانين.

السياسات الليبرالية تدعم نفسها لأنها تخلق المستفيدين الذين يصبحون الدوائر الانتخابية التي تدعم استمرارها وتوسعها. وترتكز المناظرات السياسية على القرارات الإضافية التي يجب على الحكومة اتخاذها، وليس على ما إن كان يجب وقف الأدوار الحالية.

وترك الأب الروحي لتيار «الشاي» جيم دي مينت، دورا أساسيا في صنع السياسة في مجلس الشيوخ العام الماضي لإدارة جمعية مختصة بالتراث، وأطلق على ذلك «ترقية كبيرة». ولم يكسب دي مينت الكثير بالفعل من الصفقات التي أنجزها الكونغرس. والرأي بأن التشريع العادي والتنازلات والتسويات من الحزبين تؤدي إلى توسع الحكومة، ليس من أوهام تيار «الشاي» بل قراءة دقيقة للسبعين سنة الماضية. ومن المؤكد أن فشل المحافظين في تقليص الحكومة لا يعني الانتصار الدائم لليبراليين. فلا يزال عدم التغيير هو النتيجة الأكثر احتمالا في معركة تشريعية. والتعويق استراتيجي.. السلطات المشتركة، والمراجعات والتوازنات ونقاط الفيتو المتعددة، تصعب إنجاز تغيير في السياسة. كما أن بعض السياسات الليبرالية مثل الحد الأدنى للأجور تفقد فاعليتها ما لم يجر تحديثها بصورة منتظمة. ومن شأن نجاحات محافظة قليلة خاصة في سياسة الضرائب أن تغمر قوانين ليبرالية أكثر عددا.

لكن الحكومة الاتحادية وسعت دورها بصورة متواصلة في مجالات التعليم والحقوق المدنية والبيئة والرعاية الصحية، ولعب الرؤساء الجمهوريون أدوارا أكبر في هذه الناحية. فالرئيس الراحل نيكسون رسخ مفهوم المجتمع الكبير، وأشرف على الثورة البيئية. أما الرئيس الراحل ريغان فكان أقل نشاطا على الصعيد الداخلي، ولكن ما أجازه من توسعات حكومية كان أكثر مما أجازه من تقليصات حكومية. والرئيس جورج بوش الأب أدخل قوانين تاريخية مهمة مثل «قانون الأميركان ذوي الإعاقات»، وأضاف ابنه «لا طفل يترك وحيدا» و«استحقاقات الرعاية الطبية الجديدة».

لا يزعج هذا التاريخ بعض الجمهوريين الذين يرون الفرص في تبني الأفكار الجديدة والمساومة من أجل الأهداف المحافظة. ولكن حتى صناعة السياسة القديمة التي خططت لتنمي الأسواق وتحمي الأخلاق والوطن، عادة ما كانت تؤدي إلى توسع الحكومة. وإن كان التقليص هو الهدف فمن غير المحتمل أن تنجح أجندة السياسة الإيجابية. يقصد المحافظون مثل دي مينت.. أولويتهم حكومة أصغر تفعل ما هو أقل، وقد لا يمكن تحقيق ذلك. قد يبطئ المحافظون من نمو الحكومة لكن التغير القوي في اتجاه السياسة سيكون غير مسبوق، وأوضح التاريخ أن الكونغرس الذي لا يفعل شيئا هو السيناريو المفضل للمحافظين.

* خدمة «واشنطن بوست»