اغتيال المستقبل!

TT

أيا كان الموقف من توصيف الصراع المسلح الدائر بدموية شديدة في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات بين المعارضة والنظام، فإن أعراضه لا تختلف كثيرا عن طبيعة أي حرب أهلية، وهي أقسى حالة تدمير ذاتي يمكن أن يتعرض لها مجتمع، وتستمر آثارها لعقود حتى بعد أن تتوقف الحرب بما يفوق حتى تأثيرات عدوان خارجي.

يقال إن متوسط عمر الحروب الأهلية بين خمس وعشر سنوات، إذا لم تكن هناك فرصة يفرض فيها السلام بالقوة من طرف خارجي، وهو في حد ذاته أمر صعب على اعتبار أن خطوط القتال لا تكون واضحة عادة، وإذا لم تكن هناك إرادة واضحة من جانب الأطراف المتقاتلة في وقف نزيف الدم. وتستمر آثار مثل هذه الحروب لجيل أو جيلين على الصعيد النفسي، بخلاف الاحتياجات المادية المتعلقة بإعادة الإعمار لعودة الحياة إلى طبيعتها.

وفي الأزمة السورية التي بدأت أولا بشكل سلمي لمطالب اجتماعية وسياسية وتحت تأثير أوضاع اقتصادية ناجمة عن الجفاف في المناطق الريفية، أدى التعنت الداخلي خاصة من قبل النظام، والإحجام الدولي عن التورط بشكل مباشر، إلى هذا التصعيد المعقد كصراع مسلح دخلت في معادلته التنظيمات المتطرفة من الجانبين لتعطيه صبغة طائفية غير حقيقية، إضافة إلى أنه تحول إلى مسرح لصراع في الحرب الباردة الجديدة التي تتبلور الآن على الساحة الدولية.

وللأسف، فإن أكثر من يدفع الثمن في هذا النزاع هم الأفراد غير المسلحين، وهم الغالبية من السكان الذين يجتهدون لتدبير قوتهم يوميا، وتعكس أرقام اللاجئين والنازحين، وهي بالملايين، سواء في دول الجوار أو داخل سوريا، حجم المأساة، وبعضهم أمضى أكثر من شتاء في خيم على الحدود في دول الجوار التي تئن من العبء، ويعتمدون في حياتهم على المعونات الدولية ومن منظمات الإغاثة الإقليمية والدولية.

ولعل أخطر جوانب هذه الكارثة الإنسانية ما حذرت منه منظمة اليونيسيف التي أشارت إلى وجود خمسة ملايين ونصف المليون من الأطفال السوريين في أشد الحاجة إلى مساعدات في مجال التعليم والدعم النفسي، الأمر الذي يهدد في حالة عدم وجود مساعدات واهتمام كاف بنشوء جيل ضائع لم يحصل على الفرص الطبيعية لتكوينه النفسي والتعليمي.

المشكلة هي أن هؤلاء الأطفال هم شباب وشابات المستقبل، أو بعبارة أدق، هم مستقبل سوريا، وعدم الاعتناء بهم يعني اغتيال المستقبل، فالحرب لن تستمر إلى ما لا نهاية.

وهؤلاء الأطفال هم أكثر المتأثرين نفسيا بالأزمة والصراع لأنهم شهدوا العنف والنزوح والمخيمات في سن صغيرة في فترة تشكّلهم، وحُرم الكثير منهم من أبسط الظروف الطبيعية الإنسانية التي يتمتع بها أي طفل، وهي أمان المأوى والأسرة، والذهاب إلى مدرسة اعتيادية، واللعب في أجواء آمنة مع أقرانهم. وتشير أرقام اليونيسيف إلى وجود ثلاثة ملايين طفل سوري بين النازحين من مناطقهم، ومليون و200 ألف طفل أصبحوا بين اللاجئين.

اليونيسيف تطالب بتمويل مستقر على مدار ثلاث سنوات من أجل تحقيق المتطلبات التعليمية والنفسية لهؤلاء الأطفال، على اعتبار أن هذا استثمار ضروري في المستقبل، وهو بالطبع الحل المتاح لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فليس هناك أفضل من توقف القتال وعودة الحياة إلى طبيعتها.

لقد دفع هذا الجيل من الأطفال ثمنا فادحا من دون ذنب، ولا يمكن تفادي أن الآثار السيكولوجية لما شهده من أهوال وعنف ودم ونزوح ستستمر معه حتى عندما يصبحون شيوخا، فهذه هي الضريبة التي تدفعها المجتمعات عندما يصبح الصراع جنونيا، حتى لو كان ثمنه تحويل البلاد إلى أطلال.