جاك لوغوف والإسلام

TT

رحل عنا مؤخرا أكبر مؤرخ فرنسي في هذا العصر عن عمر يناهز التسعين عاما. إنه جاك لوغوف (1924 - 2014). قد تقولون: حاجة، يكفي، لقد أكل عمره. صحيح معكم الحق، ولكن المشكلة هي أن الإنسان لا يشبع من الحياة حتى بعد عمر مديد. أنا شخصيا أتمنى لو أعيش ألفا وخمسمائة سنة. وعلى ذكر السنين، هل تعلمون أن هذا المؤرخ العملاق كان يستطيع أن يطل بلحظة واحدة على ألفي سنة من عمر التاريخ؟ كان قادرا على أن يموضع الأشياء ضمن منظور المدة الطويلة جدا لكي يفهمها على حقيقتها. وقد طبق ذلك على المشكلة الطائفية أو المذهبية داخل المسيحية، فأضاءها وكشف عن جذورها العميقة. وهذه هي ميزة المفكرين الكبار. إنهم لا يحصرون أنفسهم بعشرين أو ثلاثين سنة كما نفعل نحن المثقفين الصغار. إنهم لا يرتعبون مثلنا عندما يغطسون في أعماق القرون ثم يخرجون سالمين بعد الغطسة الطويلة. إنهم يرون إلى أبعد من أنفهم كما يقال. ولكن كم يكون علمهم ضخما، ومعارفهم شاسعة واسعة؟ العلم بحر، وهم يبحرون. من هنا ظهرت عبارة: التبحر في العلم. وقد كان جاك لوغوف من هؤلاء حتما. من هنا تأتي أهمية مؤلفاته الضخمة التي أصبحت مراجع عالمية. نذكر من بينها «بحثا عن الزمن المقدس»، و«عصور وسطى طويلة»، و«المثقفون في العصور الوسطى»... إلخ. الشيء المدهش هو أن جاك لوغوف كان يعتبر أن العصور الوسطى تمتد حتى القرن الثامن عشر، وليس السادس عشر كما جرت العادة. كان يعتبر أنها لم تنته بظهور عصر النهضة في القرن السادس عشر كما اعتادوا على تحقيب تاريخ الفكر في الغرب. كان يعتبر أنها لم تنته فعلا إلا بعد ظهور الثورة الصناعية في إنجلترا، والثورة الفرنسية في فرنسا. بعدئذ، أغلقت مرحلة العصور الوسطى بالفعل وابتدأ عصر الحداثة ودولة القانون وانحسار الأصولية المسيحية ووضع حد للتفريق بين أبناء الشعب على أسس طائفية. عندئذ، انتقلنا من سقف إلى سقف، من فضاء عقلي إلى فضاء آخر مختلف تماما. أو قل انتقلت أوروبا. أما بالنسبة لنا نحن فلم تُغلق بعد، بل لا نزال نعيش في أعماق أعماقها. لا نزال غاطسين في دياجيرها وعتماتها.

لكن، لنعد إلى موضوعنا الأساسي: ما موقفه من الإسلام والمسلمين؟ لقد كان موقفا إيجابيا منفتحا لا متحيزا ولا متعصبا ضدنا بشكل مسبق. قد تقولون: ولكن هذا شيء طبيعي إذ يصدر عن مفكر كبير. وأجيب: ليس طبيعيا إلى الحد الذي تتصورون. فالواقع أن الكثيرين من المشاهير لا يشاطرونه ذات الموقف، وإنما يستسلمون للكليشيهات السهلة المتشكلة عنا في المخيال الجماعي الغربي منذ أكثر من ألف سنة. التصورات العنصرية والطائفية عمرها طويل. تستطيع زحزحة الجبال، ولكن ليس تغيير العقليات! شكرا لجاك لوغوف الذي كان ينظر إلينا كبشر على الأقل، بل وكمتفضلين على الحضارة الفرنسية والأوروبية ككل. في عام 2006 صدر كتاب جماعي ضخم بإشراف محمد أركون تحت عنوان «الإسلام والمسلمون في فرنسا منذ العصور الوسطى وحتى اليوم»، وقد شارك فيه ما لا يقل عن سبعين باحثا عربيا وأجنبيا. ومن الذي قدم له؟ إنه جاك لوغوف نفسه. وفي مناسبة رحيله لا أملك إلا أن أعود إلى ما كتبه مرة ثانية أو ثالثة. يقول المؤرخ الكبير ما معناه:

«على الرغم من العداء العنيف غالبا للفرنسيين تجاه المسلمين، فإن فرنسا استعارت أشياء ثقافية وإنسانية عديدة منذ القرون الوسطى وحتى اليوم من الإسلام. وهذه الاستعارات أغنت، ولا تزال تغني، الحياة الاجتماعية والثقافية لفرنسا. وبالتالي، فينبغي على فرنسا أن تحترم كل ما يتماشى داخل تراث الإسلام مع دولة الحق والقانون وبقية القيم الديمقراطية والإنسانية. بل وينبغي على أوروبا كلها أن تنتقل بأبناء الجاليات الإسلامية العائشين على أراضيها من حالة الآخر المغاير المنبوذ إلى حالة المواطن المحترم الكامل الحقوق».

ويرى جاك لوغوف، أن إضاءة المشكلات من جذورها العميقة أمر ضروري للتحرر منها. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب الموسوعي الضخم الذي أشرف عليه أركون والذي يفكك الكليشيهات المبتذلة والتشويهات الظالمة التي لحقت بصورة المسلم وتراثه في فرنسا وعموم أوروبا منذ أقدم العصور وحتى اليوم. الصور الكاريكاتيرية البشعة ليست بنت اليوم. إن عمرها ألف سنة على الأقل. وبالتالي، فلا يمكن تحرير الحاضر قبل تحرير الماضي، بل والماضي البعيد. متى سنفهم هذه الحقيقة البدائية؟! ولا يمكن استشراف مستقبل جديد قبل التخلص من رواسب هذا الماضي الذي لا يزال يعشش فينا. هذا هو الدرس الكبير الذي خلفه لنا جاك لوغوف. وهو ينطبق على العلاقات فيما بيننا نحن العرب والمسلمين. فنحن أيضا نشكل عن بعضنا البعض كليشيهات سوداء مرعبة تمزقنا وتفرقنا. وقد آن الأوان لتفكيكها قبل أن تفككنا وتدمرنا!

أخيرا، الأمر الذي فاجأني في هذا المؤرخ الفذ هو إنسانيته. كنت أعتقد أن المؤرخين الكبار أشخاص موضوعيون باردون لا أثر للذاتيات الشخصية أو العواطف الجياشة لديهم، فإذا بي أكتشف العكس. لقد حصل له انهيار عصبي تقريبا عندما توفيت زوجته قبل عشر سنوات بمرض السرطان المفاجئ. ولكي يعزي نفسه كرس لها كتابا يتحدث عن ذكرياته معها طيلة أربعين سنة وكيف وقع في حبها يوما ما بالضربة القاضية. وقد ختم تفجعه عليها بالعبارة التالية: كيف العيش بعد غيابها؟ ألم أقل لكم لا شيء عظيما في هذا العالم يحصل من دون حب؟ الحب هو جوهر العالم ومحركه الأساسي، وليس صراع الطبقات كما توهم هذا الحسود الحقود ماركس. أقول ذلك في وقت تنفجر فيه الأحقاد المذهبية والطائفية في كل مكان. ولكن جاك لوغوف كان يعرف كيف يتعالى عليها ويفتح صدره للآخر المختلف: أي لعشرين مليون شخص من جالياتنا الكريمة المنتشرة في شتى أنحاء أوروبا.. وأغلبيتهم من المغرب العربي الكبير.