يا غافل لك الله

TT

زلات اللسان جزء من الطبيعة البشرية. أحيانا تحدث مشكلات كبيرة شخصية أو اجتماعية أو حتى حروب بين دول، وأحيانا تؤخذ على محمل الظرف والنكتة التي تشيع الابتهاج وترسم الابتسامة.

هذه الأيام قرأت خبرا عن مترجم لمدرب فريق كرة قدم سعودي، يتحدث فيه عن رئيس فريق منافس، وفي لحظة ظن فيها أن لاقطات الصوت بعيدة والكاميرات غافلة، وقع في شباك الإعلام الخطرة، وتفوه بكلام اتهامي ضد المنافس، وهو مسترخ.

تلقف الإعلام الرياضي المتعطش هذه اللقطة، وبنى عليها أهراما من الكلمات، حتى والمترجم يحاول التسويغ والتفسير فهو لا يصنع في الحقيقة إلا الغوص أكثر في الرمال المتحركة، ليقول غاضبا في حديث إذاعي: «هل التلفزيون كاميرا خفية نصبت لي؟!».

فعلا سؤال وجيه، لو أنك كنت في لحظة عادية مع صحبك لقلت كلاما غير الذي تقوله أمام الكاميرات والصحافيين، وهذا سلوك طبيعي ليس نفاقا وتلونا، فالإنسان له أكثر من حال ومقتضى، ولكل مقام مقال، كما قال الأسلاف.

غير أن شهوة الإعلام لا تذر أحدا يستمتع بخلواته أو بثرثراته الفارغة. الإعلام فاغر فاه ويقول: «هل من مزيد؟».

هذه الهفوة أو الزلة تذكر بزلات أخطر أثرا من زلات الرياضة، فمن أشهر الزلات التي قاربت الكارثة، وقالها صاحبها وهو يظن أن الإعلام غافل عنه والميكروفونات لاهية ساهية، زلة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، الشهير بظرفه، وشعبيته السياسية، ففي عام 1984 أراد ريغان اختبار الميكروفون قبل حديث إذاعي، لكن الميكروفون كان متصلا مباشرة بالهواء، فقال: «أيها الأميركيون، يسرني أن أخبركم اليوم بأنني وقعت على تشريع سيمحو الاتحاد السوفياتي من الأرض إلى الأبد، وسنبدأ القصف خلال خمس دقائق». لك أن تتخيل وقع هذه الكلمات حينذاك.

رئيس أميركي آخر قال أشهر زلات لسان هذا القرن، وهو بوش الابن، حينما تحدث عن «حرب صليبية» تقوم بها أميركا ضد الأعداء في أفغانستان والعراق. وتم تجاهل البعد البلاغي المجازي في الكلام.

زلات اللسان، والأحلام، ولحظات الانفلات الغضبي الأعمى، هي كما يقول أهل النفس من اللحظات التي يتحرر فيها اللاوعي المقموع من سلطة الوعي القامع، وربما كان الأمر أسهل من كلام النفسيين، وكانت ببساطة لحظات ضعف إنسانية تلقائية هي التي تجعل الإنسان إنسانا.

بعض فلتات اللسان أثرها كأثر نزع سدادة من قارورة محتبسة بمائها وغازها، أو أثر إزالة حجر ركين يقوم عليه بناء سد يحجز أطنان المياه خلفه، فأي عاقبة تكون لسقوط حجر السد؟

قال ملك الحيرة الجاهلي:

قد قيل ذلك إن صدقا وإن كذبا.. فما اعتذارك من قول إذا قيلا؟

الكلام له أصل معنى الجرح، والكلوم هي الجروح، وقيل إن لقب الكليم أتى من معنى الجريح، أي أنه جرح بأظفار الحكمة، كما قال بعض أهل البلاغة والتفسير.

تسامح مع زلات الإنسان، حتى يتساهل معك الآخرون حين تزل.