رسالة في التسامح السني الشيعي

TT

كانت أوروبا تعيش عصورا مظلمة وتغرق في بحار من الجهل والحروب، واشتدت الصراعات بعد ظهور حركة مارتن لوثر الإصلاحية للكنيسة عام 1517 والتي قسمت المسيحيين إلى متمسكين بالكاثوليكية ومناصرين للبروتستانتية.

تنقلت الخلافات بين الفريقين في أنحاء أوروبا حتى ازدادت في ألمانيا التي كون البروتستانتيون فيها اتحادا إنجيليا عام 1608 ليتكتلوا ضد أي تهديد على مذهبهم الجديد فرد عليهم الكاثوليك بإنشاء رابطة كاثوليكية. ولم يلبث الشحن والاصطفاف والاستعداء حتى تحول إلى حرب دامية استمرت 30 عاما من عام 1618 وحتى 1648، انضمت إليها معظم دول أوروبا وأمرائها وكنائسها.

أكلت حرب الـ30 عاما اقتصادات الدول وخيراتها، وقضت على رجالها حتى ذكر أن ألمانيا وحدها فقدت سبعة ملايين رجل، ولو استمر العداء الآيديولوجي بين الطائفتين بنفس عقلية الماضي الرجعية لما صارت أوروبا كما هي الآن موحدة، ولظلت تخوض في دماء شعوبها المنحورة بالخلاف المذهبي. ولعل من أسباب انتهاء هذه الحقبة المظلمة ظهور مفكرين ساهموا في تغيير المجتمع وجعله أكثر قابلية للتعدد واحتواء المختلفين، ومن ضمنهم جون لوك البريطاني، صاحب كتاب «رسالة في التسامح»، طالب لوك في رسالته بتفرغ الكنيسة لأمور الآخرة والحكومات لأمور الدنيا، وألا تسلب الحقوق المدنية في الدولة من أي إنسان بسبب ديانته، وأرجع قيام الحروب الدينية التي سادت العالم المسيحي إلى نبذ التسامح إزاء المخالفين في الآراء، وليس بسبب تعدد الآراء التي من الصعب تجنب وجودها. هذا الطرح التصالحي وأشباهه من مفكرين أوروبيين أثمر في مجتمعات أصابها الإنهاك والحنق من عقود الحروب الطويلة والمآلات التي وصلوا إليها جراء الاستماع لأصوات التحريض الطائفية، فلم يجنوا من ورائها سوى مزيد من القتل والتدمير والفقر، لذلك كانوا بانتظار إصلاحات فكرية تنتشلهم من الضياع وتأخذهم إلى حقبة جديدة قائمة على المحبة والتسامح والاهتمام بالعلم والفكر والفن.

الشرق الأوسط يعيش هذه السنوات وضعا مشابها للوضع الأوروبي في القرون الوسطى، فقد اتسعت بؤر التوتر الطائفية بين الشعوب العربية ابتداء من لبنان مرورا بالعراق حتى سوريا، وهذه الدول هي التي أخذ فيها شكل الصراع شكلا دمويا وصراعات مسلحة، وإلا فهناك غيرها من البؤر التي تشهد شحناء وبغضاء مستمرة. أدى قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ونهجها في «تصدير الثورة» إلى تأجيج الخلاف والنفخ في جمره، حتى تحول إلى نار تحرق ما تبقى من سلم أهلي وتعايش ورضا بالأوضاع القائمة بين الأقلية الشيعية والأغلبية السنية. يلخص هدف «تصدير الثورة» الإيرانية ما ورد في تصريح مرشدها الخميني لصحافي ياباني عام 1979 حين قال: «سنعمل على نشر ديننا في كل البلدان الإسلامية»!، ومهما كانت التفسيرات التي حاولت اختلاق الأعذار لهذا التوجه والتخفيف من غلوائه ودوغمائيته؛ فإن التطبيق العملي له على الأرض بتأسيس حزب الله في إيران وتسيير عراق ما بعد البعث والدخول كطرف صراع في سوريا وزرع القلاقل الطائفية في دول الخليج العربي، وغيرها من الدول العربية، يثبت أن هذا التوجه قائم بقيام نظام الحكم الحالي في إيران إلا إذا أعلن صراحة تخليه عنه بالأقوال والأفعال.

لذلك سيكون من الصعب إحسان الظن بهذا النظام الذي تحكمه هذه العقلية والتسامح معه، ومن الأجدى التسامح والتفاهم مع ضحايا هذا النظام من الشيعة وعلى الأخص العرب، فقد وجد بعض المراجع الشيعية العربية أنفسهم تحت وابل من الهجوم والتشكيك والتهميش الإعلامي، لا لشيء سوى أنهم ينتهجون منهجا تسامحيا، ويرون مستقبل أوطانهم في التعايش والتعاون واستئصال الفتن الطائفية، واقتصار الولاء للوطن وحده ونبذ ما عداه من ولاءات خارجية لأسباب باطنها الدين وظاهرها السياسة والهيمنة شبه الاستعمارية.

من المراجع الشيعية العربية التي لاقت الأذى بسبب تمسكها بعروبتها وبوطنيتها العلامة محمد حسين فضل الله رحمه الله، فقد كانت هناك مطالبات بنزع مرجعيته، واتهم من قبل بعض المخالفين بالعمالة والخيانة، وذلك لأن فضل الله ينكر الولاية العامة للفقيه وهو ما يتعارض - كما ذكر فضل الله في إحدى لقاءاته - مع من يرون «أن القرار الإسلامي الشيعي، سواء في الجانب الشرعي أو التنفيذي، لا بد أن يصدر من إيران، مما يجعل أية مرجعية خارج إيران، ولا سيما إذا كانت في لبنان، لا تتناسب مع هذا التصور». وحاليا يتعرض العلامة السيد علي الأمين لمثل هذا الاضطهاد الفكري بسبب وقوفه ضد ولاية الفقيه، والارتباط السياسي بها خارج الحدود، الأمر الذي يتنافى مع الولاء للوطن ومؤسساته. وهناك غيرهم من رجال دين ومفكرين يحملون الهم الوطني والقومي ويقفون ضد أي محاولات لتفتيت المجتمع تحت رايات مذهبية مسيسة. وفي الجانب الإيراني هناك أصوات مقموعة من مراجع ومثقفين بسبب محاولاتها الإصلاح والتصحيح، بما يقرب إيران من جيرانها في العالم الإسلامي ويخلصها من بعض القيم الثورية التي أورثتها العداوات وساعدت أعداء العالم الإسلامي على تفتيته إلى طوائف متصارعة.

التسامح المنشود لا يمكن الوصول إليه إلا بالتعاون مع هذه الأصوات الوطنية المخلصة، وبمساعدتها في التغيير والإصلاح، وبإنهاء حالات التشنج وتطبيق قوانين العنصرية على مثيري الفتن من الجانبين، ويكون بإعلاء القيم الإسلامية في التسامح والتراحم بين أفراد المجتمع الواحد، وتقديم الولاء الوطني فوق كل ولاء، واعتبار أصحاب الولاءات الخارجية - لأي مسوغ كان - خونة لأوطانهم، وتجريمهم من كل فئات الوطن وطوائفه.

* كاتب سعودي