«داعش» الحالة: عن الإرهاب الوسطي!

TT

لا تزال «داعش» رائدة الشباك الأولى على مستوى الأخبار والتحليلات والمخاوف، في الأيام القليلة الماضية شاركت في عدة نقاشات وحوارات مع متخصصين من مراكز أبحاث وباحثين في ذات الحقل مأخوذين بهذا الصعود المدوي للتنظيم رغم محاولات التشكيك والتقزيم.

«داعش» لم تعد شأنا إقليميا خاصا، لا يجدي الآن التنصل من المسؤولية عن «داعش» من قبل طريقة الولايات المتحدة في الحملة على الإرهاب، التي لم تجد صدى نقديا يليق بتبعاتها الكارثية، كما أن إدانة داعش على المستوى الأمني والسياسي لا يحل المعضلة إذا لم يترافق مع تتبع للجذور الفكرية والاجتماعية وبيئة الاستقطاب والخطاب السائد وتفكيك المفاهيم الأساسية ورصد نماذج التجنيد والتسويق والدعاية على الإنترنت.

هذا على مستوى التنظيم بما يعني القيادات، الكوادر، التمويل، التحالفات مع تيارات ورموز أخرى يبدو أن «داعش» أملها الوحيد بعد سقوط تجربة «الإسلام السياسي»، لكن السؤال الذي يولد الآن: هل تكفي محاصرة داعش للخروج من حالة داعش؟! هل محاولة استدعاء التدخل الغربي تحت أي مظلة لسحق التنظيم ستكون كافية للقضاء عليه، أم سيدخل في حالة بيات ليعود بشكل أقوى كما أخبرتنا تجارب طالبان و«القاعدة» و«القاعدة في جزيرة العرب»... إلخ.

الجواب: بالطبع لا، محاصرة «داعش» التنظيم أو القضاء عليها لا يعني توقف إنتاج المزيد من الخلايا المتدفقة بسبب بقاء «النبع» الفكري أو ما أسميه «الجذر الواحد»، فمن يعتقد ببطلان شرعية الدولة القُطرية المدنية الحديثة «دولة المواطنة» القائمة على المساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو اختلافاتهم العرقية، فهو يلتقي مع داعش في الهدف وإن اختلف في الأسلوب، من يدعُ إلى المشاركة في مناطق التوتر والقتال بحجة النصرة أو الجهاد أو تكثير السواد، ويعتقد أن ذلك نصرة للإسلام أو أهل السنة فهو ينتمي لذات الجذر المتطرف، وهو تسويغ التدخل في سيادة دولة أخرى بدافع سياسي أو ديني متطرف أو بحجة وجود تنظيمات إرهابية متطرفة شيعية، بحيث يتحرج البعض من نقد الإرهاب يجعلنا نقع في أزمة ازدواج المعايير.

هل هناك فرق بين الإرهاب السني أو الشيعي أو البوذي أو حتى إرهاب الفوضى، الذي لا علاقة له بدين أو مذهب؟ بالطبع لا فرق من حيث الإدانة، لكن الإشكالية أن الإرهاب المتصل بدول واستخبارات عادة ما يكون منقادا إلى أجندتها، اليوم نحن نشهد حالة سنّية فريدة، فرغم استقلالية «القاعدة» طيلة الفترة الماضية منذ نشأتها فإنها كانت خاضعة للمزاج العام، وهذه نقطة مهمة سأعود لها لاحقا، إلا أن إرهاب اليوم هو خيار مستقل شرعيا وتجنيدا وتمويلا وحتى على مستوى التحالف مع أي كان (العلاقة بين داعش وبين ميليشيات التهريب ونقل الممنوعات وتجار الأزمات مثال صارخ على هذا التحول).

قبل أيام صرح «داعية» سوبر ستار بأنه أول مسلم يدخل قوائم «تويتر» من حيث المشاهير، مجاورا نجوم الفن الغربي وأيقونات الصيحات العصرية الجديدة «التغريبية»، وفي ذات الوقت دعا المقاتلين في الشام متجنبا التصريح باسم داعش ومكتفيا بالوصف إلى ضرورة أن يتوقفوا عن تصوير المجازر الدموية البشعة، لأنها تفهم بشكل خاطئ!

طبيعة الخطاب المزدوج ما يقال للإعلام والأنظمة والعامة، وما يقال للأتباع «رأس المال الثقافي» للتطرف، جزء من تركيبة «الجذر الواحد» للتطرف، فالتوافق في أصول المسائل الموقف من الذات والآخر والدولة الحديثة والمرأة والفن وأسلوب الحياة والعيش وطبيعة المسائل التي تثار فور اكتساب أي أرضية أو موقع، البدء بهدم المعالم الثقافية باعتبارها رموزا شركية فرض أسوأ الاختيارات المتشددة دينيا لتكون نمط عيش اجتماعيا هو ما يجعل من «داعش» الحالة أخطر بكثير من «داعش» التنظيم.

ما قد يفاجئ القارئ غير المتتبع لجغرافيا الإرهاب اليوم، هو وجود كونتونات - مجتمعات مغلقة متناثرة تعيش هذا النمط من العيش لحين الانتقال إلى أرض الأحلام، دولة أمراء المؤمنين وجنة الخلافة الواعدة، هذا النوع موجود في ضواحي باريس، كما هو في أبين وجنوب اليمن، كما في القرن الأفريقي ودول القوقاز، ويكاد يكون النمط المضاد للدولة الفاشلة في رقعة كبيرة من العالم الثالث (بالطبع لا يمكن إلقاء الضوء على هذه المناطق إعلاميا، بسبب زحام أخبار القتل والدمار والثورات وانهيار الدول)، والسؤال: قبول هذا النمط واندماجه اجتماعيا وتحالفه مع العشائر ومع الخطابات الدينية الأخرى التي توصف بالمعتدلة، يعني أن تحول إلى «حل بديل» لدى الطبقة المسحوقة في البلدان التي تقف على حافة الفشل، وأيضا تحول إلى خطاب «بديل» ومعارض في الدول المستقرة التي ما زالت مصدومة من رأس جبل الجليد الداعشي الذي لم يظهر إلا نزق بضع مئات من الانتحاريين الذين يعيشون عصابا جماعيا مدفوعا بغرور التفوق والانتشار والغطاء الإعلامي على الإنترنت، لكنه يخفي تحته فشل عقود من المواءمة بين خطاب ديني معتدل وبين حياة حديثة تتجه نحو التعقيد يوما بعد يوم.

الإسلام المختطف الآن هو جزء من المشكلة، لكن لا يمكن إيجاد حلول من دون استرجاعه، العودة إلى ما قبل «تسييس» الدين في نسخته الحديثة التي لم تتجاوز العقدين، ولا شك أن إنتاج البديل أو حتى القيام بمراجعات نقدية لا يمكن أن تظهر نتائجه إلا في مدد زمنية طويلة لا يحتملها الوضع الخطر الذي وصلنا إليه.

الالتفات إلى داعش الحالة الآن أهم ولم يفت الوقت، تجريم الطائفية بشكل صارم للحفاظ على اللحمة الوطنية، لا سيما في الخليج الذي لديه فرص أكبر لتجاوز المنعطف الداعشي بحكم الرخاء الاقتصادي والمشاريع التنموية الضخمة والفرص الواعدة، والمشاريع التي تعم أرجاء البلاد بلا تمييز، هذا الترسيخ لمفهوم الوطن الواحد يجب أن تقابله تشريعات جديدة تواكب منسوب الطائفية الصاعدة بقوة، القوانين الصادرة أخيرا ساهمت في إعادة طرح صورة السعودية على الأقل لدى العقلاء في العالم، بوصفها مبادرا أول في ملف الإرهاب بحكم أنها أكثر الدول استهدافا وتضررا منه، فالأكيد أن تشريعات ضد الطائفية والتمييز بين المواطنين على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي، ستكون ضربة قاصمة لمن يريد اختزال الوطن في شخصه أو جماعته أو المتابعين لفكره وخلايا الفتن تنعشها الفوضى، هل سنشهد لاحقا من يقنعنا بالإرهاب الوسطي بعد الإسلام السياسي الديمقراطي..؟ ربما!

[email protected]