مؤامرة.. لا مؤامرة.. المحصلة واحدة

TT

هي محصلة واحدة ليست تسر أحدا، خلاصتها أن معظم العالم العربي، يعبر حالة تدهور مستمرة على أكثر من مستوى منذ سنين، وتسير من سيئ إلى أسوأ. خذ أحدث تقرير بشأن أعداد اللاجئين وأوضاعهم حول العالم. يقول تقرير الأمم المتحدة الصادر في العشرين من يونيو (حزيران) الحالي (يوم اللاجئين العالمي)، إن أعداد اللاجئين بلغت (51.2) مليون لاجئ، وهو أمر يحدث للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثم إن منطقة الشرق الأوسط في مقدمة المناطق التي تواجه تزايدا متواصلا في أعداد النازحين بسبب الصراعات والحروب.

العالم العربي هو قلب تلك المنطقة من العالم، وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية كانت بين أيدي العرب مشكلة لاجئين واحدة تخص الفلسطينيين الذين فروا من بطش عصابات الإرهاب الصهيوني، وكذلك الذين أخرجوا من بيوتهم بعدما احتل «جيش الدفاع الإسرائيلي» قراهم ومدنهم. انظر كم مشكلة لاجئين عرب تتفاعل وتتفاقم في العالم العربي اليوم نتيجة أفعال لأقوام من العرب أنفسهم. «مؤامرة»، يصرخ البعض. أين «المؤامرة»! ذلك وهم وأضغاث خيال، يرد آخرون على الضفة المقابلة من نقاش طال عقودا ولم يزل يجيّش عواطفَ ويوتر الأعصاب حيثما أثير، في كل مجال، من «فيسبوك» إلى «تويتر»، وما يماثلهما. لكن الأسوأ مما يثار على مواقع التواصل تلك، هو تبادل الاتهامات بين معظم المقتنعين حتى العظم بالمؤامرة، وأغلب الداحضين لها حتى النخاع، إذ لم يعد يعمل بأدب الحوار في فضاءات العرب وقاعاتهم إلا القليل، وما عاد أكثر الزاعمين وصلا بالفكر يقبل أن اختلاف الرأي معه منطلقه موضوعي، ولا يعني مطلقا أنك «عميل» لطرف يتقصده شخصيا.

على سبيل المثال، الأحد الماضي (22 - 6 - 2014) رحل عن عالمنا البروفسور فؤاد عجمي، المفكر اللبناني - الأميركي. ورغم تناقض رأيي منذ زمن مع كثير من آراء الرجل، خصوصا ما يتعلق منها برؤيته لأسباب «محنة العرب»، وانتكاساتهم المستمرة، فقد هالني إذ رحت أقرأ عنه عشية وفاته، حجم العداء الشخصي الموجه له من جانب من يزعمون أن اختلافهم معه فكري - سياسي، ومع ذلك لا يتورع بعض منهم، حتى الحامل للقب أكاديمي، عن نعته بصفات، من المعيب أن تصدر عمن يصف نفسه بالمفكر أو الأكاديمي، فكيف بكليهما معا؟

القصة قديمة - جديدة، كما تعرفون. حصل موقف تحامل شخصي مشابه ضد البروفسور إدوارد سعيد عندما اختلف مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، إثر بدء الأخير رحلة التفاوض مع إسرائيل، بعد مؤتمر مدريد (1991). فجأة، تحول مفكر فلسطيني كبير بقامة إدوارد سعيد إلى هدف، يريد النيل منه كل من أراد إرضاء عرفات. لم يكن الخلاف شخصيا، بل سياسيا، ورغم أن معارضة إدوارد لاتفاق أوسلو استندت إلى موقف علمي من جانبه، فإن هناك من قصد شخصنته، وراح بعض من يحمل صفة مفكر، أو يحتل كرسي مسؤولية إعلامية، يحمّل موقف إدوارد سعيد فوق ما يحتمل، وأحيانا لدرجة التحامل الشخصي، بل حتى الصداقة والمشاركة في عزف البيانو مع موسيقار من وزن يهودي مناحم، جرى استغلالها ضد إدوارد سعيد من جانب بعض خصومه العرب، ولم تفلح في إنقاذه من تهمة «العداء للسامية» على الجانب الإسرائيلي.

فؤاد عجمي وإدوارد سعيد يقفان على ضفتين؛ يجري نهر كل منهما في اتجاه معاكس للآخر، لكن الراحلين المتميزين مثالان لكيفية التعاطي من منطلق شخصي مع موقف فكري يستند إلى نهج أكاديمي وتصور سياسي. مع ذلك، يمكنني تخيل زعيق بعض المحسوبين على الفكر، أو الإعلام، معترضين كيف أجرؤ على مجرد ذكر الاسمين معا في مقالتي هذه، إنما بالإمكان ملاحظة أن معظم من يحولون آراءهم، أو أدواتهم الإعلامية، وربما كلاهما، إلى منصات إطلاق الاتهامات، وشخصنة الخلاف، هم أيضا ذوو ارتباطات بأنظمة، أحزاب، أطراف، أو زعامات، وذلك في تقديري من حقهم، إذ ليس لأحد أن يحاسب أحدا على ولاءات تمليها: إما القناعات، وإما المصلحة، وربما كلاهما، فما من شخص، في نهاية المطاف، يملك أن يزعم الكمال، لا في امتلاك الحقيقة، ولا في تجرد الموقف أو الاستقلال التام.

لكن يبقى السؤال: أما آن أوان أن ينظِّر مفكرو العرب ومثقفوهم، وأن ينظِّر إعلامهم وإعلاميوهم، وأن يتعاطى الأكاديميون والمهنيون منهم، مع مشكلات الواقع العربي من منظور واقعي بحت، يسمي الأشياء بأسمائها، من دون تحكيم للهوى، بلا استعداء شخصاني، وبلا استقواء بوطن على مواطن، أو بقضية على أهلها أنفسهم؟ أليس ممكنا البدء بتطبيق مبدأ الاتفاق على ضرورة الاختلاف وفائدته القصوى، كما يردد دائما أغلب المفكرين العرب وغالبية الإعلاميين، حتى يأتي نتاج الفعل منسجما مع وهج القول؟ أم أن صراخ «مؤامرة».. «لا مؤامرة»، سيظل هو السائد، بينما المحصلة واحدة؛ مزيد من لاجئي العرب ومشرديهم، داخل بلدانهم ذاتها، من جنوب السودان إلى بقاع لبنان، وعلى ضفاف دجلة والفرات، بينما الذين يعدون أنفسهم «مجاهدين» يواصلون زحف الرايات السوداء، بزعم إقامة الشرع، حتى لو كان الثمن أن تُشرّع جرائم سفك الدماء، ويبرر إزهاق الأرواح، ويشرد بشر أمسوا آمنين ببيوتهم ليصبحوا لاجئين في بلدهم. أي عقل يمكن أن يقبل بهذا الجرم، وأي منطق يمكنه تبرير مثل هذه المأساة، سواء كانت بفعل مؤامرة حقا، أو بأفعال ليس لأي مؤامرة علاقة بها، وإلى متى يظل همّ أغلب المفكرين العرب ومعظم الإعلاميين يراوح بين انشغال بمجد الذات، أو تصيد فرصة لشخصنة أي خلاف مع أي آخر بصرف النظر عن حق وباطل؟ الأرجح أن ذلك باق إلى وقت طويل، لم يطل ضوء نهايته بعد، لا في نهاية النفق، ولا في فضاء الأفق.