شكاوى الصحافة الحزبية في المغرب

TT

أثرت الانتباه في الأسبوع الماضي إلى ظاهرة تميز الصحافة في المغرب (الصحافة المكتوبة تحديدا) ظاهرة نعتها بالوهن الذي يلازم الصحافة الحزبية في المغرب. وأوضحت أنني أقصد بالصحافة الحزبية الجرائد اليومية، والصحف الأسبوعية أحيانا قليلة التي تصدر عن تنظيمات حزبية أو أنها «لسان حالها»، أو المشتهر عنها أنها تعود إلى هذا الحزب أو ذاك. وبعد تذكير تاريخي - توضيحي استعرضت جملة الأدوار التي استطاعت القيام بها في نشر الوعي الوطني في المغرب وفي مواكبة الشأن الثقافي، من ذلك أن أغلب الأقلام التي سيكون لها ذكر (ليس في المغرب وحده بل وخارجه أيضا) قد تلمست خطواتها الأولى على صفحات الصحافة الحزبية - ولعلها كانت أيضا هي الصحافة الوحيدة المتاحة. وعلى كل فذاك أمر يتصل بالثقافة المغربية من وجوه شتى وهو يكتب في تاريخ الصحافة الحزبية في المغرب بمداد الفخر والاعتزاز. بيد أنني نبهت - وتلك كانت الغاية الأساس من مقالتي (20-6-2014)- أن الصحف التي تصدر عن التنظيمات الحزبية في المغرب، وهي الصحف التي كان لها في ماضيها من الإشراق ما يستوجب مزيد تنويه، قد أصبحت اليوم على حال من الهزال والضعف، في مقابل حال من الصحة والحيوية تعرفهما الجرائد اليومية التي لا تنتمي إلى تنظيم سياسي معلوم ولا يعرف عنها أنها تنتمي إلى هذه الجهة الحزبية أو تلك. وإذ كانت الظاهرة، في تقديري مثلما هي في نظر الملاحظين، بل وهي كذلك بدلالة التدني الشديد في مبيعات الصحافة الحزبية في المغرب قياسا مع الصحافة الأخرى غير المنتمية فإنني أرى العودة للموضوع مرة أخرى بهدف تعميق القول في مظاهر تدني (أو «وهن» الصحافة الحزبية في المغرب).

أجد أن الصحافة الحزبية في المغرب (وربما كانت الملاحظة قابلة للتعميم بالنسبة لعدد من البلاد العربية متى استبدلنا نعت «الحزبي» بصفة القومي - التي تفيد الصدور عن الدولة) تشكو من أدواء ثلاثة أساسية.

الداء الأول أو الوهن الأعظم الذي تشكو منه الصحافة الحزبية في المغرب يقبل الدخول في باب ضعف المهنية وعدم القدرة على مجاراة التطور الحاصل في ميدان الإعلام إجمالا. لماذا نجد أن صحيفة من الصحف أكثر جاذبية وقدرة على استجلاب القراء؟ لا شك أن هنالك عوامل شتى تتفاعل فيما بينها فيحصل التأثير المرجو. شكل الجريدة ذاتها وإخراجها (نوعية الورق والطباعة وجودة الألوان والسحب الفني... وما اتصل بالشكل إجمالا، وللشكل أثره وتأثيره الحاسمان). وعوامل تتصل بالسلامة اللغوية وبالاهتمام بجودة العبارة - رحم الله زمنا كان المسؤول الأول فيه عن صحيفة مغربية عريقة رجلا يعد في طليعة الأدباء المغاربة، وأما اليوم فما أكثر ما يلحق سيبويه وأهل البلاغة من أذى يومي. وإذ أشرت إلى التطور الهائل (بل الانقلاب) الحاصل في ميدان الصحافة والتواصل فإنه يتعين الانتباه إلى أن الوظيفة الإخبارية لم تعد الهم الأساسي للجريدة اليومية أو لنقل، بصراحة، إن ذلك قد غدا أمرا ليست تطيقه إلا الصحف العظمى التي تتوفر على جهاز ضخم من العاملين والمراسلين ومن القادرين على المتابعة على مدار اليوم والليلة. لذلك فنحن نلاحظ أن الجرائد تسعى إلى التوسع في مجال الرأي والتحليل. وفي الصحافة الحزبية في المغرب لا وجود البتة لصفحة الرأي، في حين أن كل الصحف غير ذات الانتماء لا تكاد تخلو من تلك الصفحة: سواء تعلق الأمر باستكتابٍ مباشر في الصحيفة، أو بنقولٍ عما يكون قد صدر قبل ذلك في صحف عربية كبرى سيارة أو تم نشره على موقع من المواقع الشهيرة في الشبكة. والسؤال الساذج عندي هو: لماذا تغيب صفحة الرأي في الصحافة الحزبية في المغرب؟ ولعلي أطرح السؤال بكيفية مغايرة فأقول: لماذا نجد كتابا وأقلاما لأصحابها مسؤوليات سياسية وقيادية في الأحزاب المغربية يفضلون الكتابة في الصحف غير المنتمية سياسيا؟ هل يتعلق الأمر بما ذكرناه سابقا من تدنٍ في أعداد مبيعات صحف الأحزاب المغربية مقارنة مع جرائد الصحف غير المنتمية؟

ربما كان في الإجابة عن السؤال المتقدم تدليل على داء أو وهن آخر تشكو منه الصحافة الحزبية في المغرب. لست أجد له سوى نعت واحد مقبول: إحكام السيطرة الحزبية على الجريدة «لسان الحزب» على نحو يتصل بالممارسة الستالينية وتقاليد الأحزاب الشيوعية في خمسينات القرن الماضي حتى وإن كانت الأحزاب التي يؤول إليها أمر تلك الجرائد يقف من الستالينية والماركسية على طرفي نقيض. كذلك نجد أن وهن الصحافة الحزبية يعكس وهنا آخر يتصل هذه المرة ببنية الأحزاب السياسية ذاتها وقدرتها على قبول الاختلاف والتعدد داخل الحزب الواحد. تتباهى بعض الأحزاب السياسية في المغرب بقدرتها على احتضان التعددية الفكرية ما دامت لا تبلغ درجة الإساءة إلى العقيدة السياسية في جوهرها، وهذا كلام مقبول من الناحية المنطقية، معقول من جهة التنوع السياسي داخل الاتجاه الآيديولوجي الواحد. لا، بل إنه دليل صحة وعلامة حيوية ونشاط - ولكن الشأن كثيرا ما يكون غير ذلك. هنالك فرق بيّن وواضح بين أن تكون الجريدة نشرة اتصال تتوجه بالخطاب إلى جمهرة المناضلين داخل حزب سياسي وبين أن تكون منبر إشعاع وأداة للمنافسة في مجال التواصل والإعلام يملك أن يشد اهتمام القارئ من داخل الحزب ومن خارجه (ومن هذا الأخير أساسا). نحن، بالتالي، في الصحافة الحزبية في المغرب، أمام خلط أو عدم القدرة على التمييز (في زمن الاحتراف الإعلامي وثورة الاتصالات والمعلوميات) بين المهنية الصحافية والخط الآيديولوجي والرقابة السياسية المباشرة، والحق أن الفصل بينهما - من أجل خدمة القضية الحزبية أمر ممكن بل وضروري.

أما الداء الثالث الذي أجد أن الصحافة الحزبية في المغرب تشكو منه فهو يتصل بالمهنية، في جانب منه، ويرجع إلى الاختلال في وهم وظيفة الحزب ومعنى الفعالية الحزبية في زمن عربي يتسم بالحركية وعدم الرضا أو لنقل إنه زمن الانتفاض. فأما ما كان متصلا بالمهنية فهو القدرة على مجابهة الذات بسؤال مهني صارم: ماذا تستطيع الصحيفة الورقية أن تقوم به في عصر الإعلام الرقمي؟ وقد يصح طرح السؤال ذاته في صيغة أخرى: ما الوظيفة، أو الوظائف، التي يتعين على الجريدة (عموم الجريدة) أن تعلن عن موتها وإلى الحاجة إلى الاستعاضة عنها بغيرها؟ ثم ما الوظيفة، أو الوظائف، التي على الصحيفة الحزبية أن تمتلك الشجاعة للإعلان عن موتها؟ وأما ما كان متصلا بالحزبية فهو يستدعي قولا آخر.