التدعيش والدعشنة!

TT

هل يمكن قراءة ما يحدث من جنون وتوحش في المنطقة دون جرعات مكثفة من «جلد الذات»؟ أعتقد جازما أن ذلك سيكون شبه مستحيل وغير ممكن أبدا. أتابع تحليلات ما يحصل وأرى الديباجات والجمل التقليدية المستمرة في وصف مثل هذا الحال، والجمل على الرغم مما تحويه من تهويل وتضخيم في الوصف، فإنها سبق وأن جرى استخدامها في السابق مرارا وتكرارا، جمل ومفردات من أمثال: «ظرف غير مسبوق»، و«منعطف تاريخي»، و«حالة لم يسبق لها مثيل»، و«أوضاع لم نر مثلها من قبل»، وغيرها بطبيعة الحال.

اليوم هناك حروب أهلية في المنطقة وهناك أنظمة قمعية تبيد شعبها، وهناك استنفار طائفي بغيض، وهناك تطرف ديني مرعب، وهناك استبداد سياسي، إرث قديم من السموم التي ملأت بعض الكتب الدينية، واستخدمت لتشكيل قاعدة مذهبية للإفتاء، ولاحقا ساهمت بشكل أساسي في إيجاد جو مسموم ضد المخالفين في الدين والمذهب والرأي، كان نتاجه خروج طوائف دينية من منطقة الشرق الأوسط، ليكون ذلك حجة واضحة على المتشددين الذين يتغنون بأنهم وسطيون ومتسامحون، ولكن وقت إثبات ذلك بشكل عملي فشلوا تماما، وكانوا أداة في رفع حرارة لهيب الفتن التي تعصف بالمنطقة.

إننا اليوم أمام مشهد إعادة رسم حدود للمنطقة، وليس المقصود هنا فقط الحدود الجغرافية السياسية للبلدان، ولكن حدود لعلاقات الأديان والمذاهب مع بعضها بعضا، فسيجري «تصنيف» جديد لهذه المذاهب والأديان بحسب المنتصر والمنهزم وبحسب المقبول والمنبوذ عالميا، مشهد جديد تماما. سقطت «الأقنعة» وسقطت «الشعارات» وأصبح الأمر واضحا تماما، فاليوم هناك توافق وتناغم ما بين أميركا وإيران، ولم تعد هناك ضرورة لشعارات مثل: «الشيطان الأكبر»، و«محور الشر» التي كانت مناسبة لفترة ما من الزمن، ولم يعد هناك داع أن تدافع إيران عن «القدس»، لأن مقدساتها في سوريا والعراق هي الأولى بالدفاع، ولم يعد هناك داع لحزب الله أن يستعرض بقواته وعتاده وأعلامه بأنه خط المقاومة الأوحد ضد إسرائيل، بعد أن تحول إلى عصابة تدافع عن نظام مجرم بامتياز.

كل هذا الجنون الفج كان لا بد أن يصاحبه جنون آخر فيولد «داعش» رمزا قبيحا للتطرف والوحشية والهمجية والجنون باسم الدين يخاطب فيه الجنون الآخر الحاصل بالضفة المقابلة على لسان المقاومة والممانعة والدفاع عن المقدسات والمقامات، وغير ذلك من الأسباب الواهية المضللة. واختفت إسرائيل عن الأخبار وتوسعت توسعا مجنونا في خططها الاستيطانية، وإدراكها أن حزب الله ونظام الأسد لن يردا أبدا عليها، ولن يبادرا بأي حراك لأجل تحرير أراضيهما كما هو الحال عليه لعقود طويلة من الزمن، وأن سلاح الأسد كله موجه لقمع شعبه فقط ولاحتلال جيرانه. إسرائيل تمكنت من توسيع مخططاتها الاستيطانية أضعافا مضاعفة، وها هو مارتن أنديك مبعوث السلام يعلن استقالته، ويعلن أن مباحثات السلام «ماتت»، في إشارة خضراء لإسرائيل على مواصلة قمعها للفلسطينيين وتمادي سطوتها الاستيطانية.

هل بات أهل هذه المنطقة من العالم في حكم «المطرودين» من جنان البشرية؟ هل كتب عليهم العيش في براثن الظلم والتشدد والسطوة والإرهاب والتنطع؟ كلما ماتت «داعش» ظهرت الأدعش منها، فنحن في منطقة قادرة على «التدعيش» و«الدعشنة» باتت جزءا من منظومة الـDNA الفكري ومن الـDNA الثقافي فيها. هناك حالة من اليأس وحالة من العجز عن فهم ما يحصل تطغى على المنطقة بشكل واضح وصريح، وتجعل الناس غير قادرين على قراءة تصورات ما هو قادم، وبالتالي التعامل معه.

نفق طويل مظلم، من الصعب إيجاد ملامح ضوء في نهاياته، ولكن لن يصلح غيرنا حالنا، ولا يمكن الاعتماد عليهم لأجل ذلك. أمامنا التحدي الأكبر أن نكون قادرين على التخلي عن التشدد والتطرف والعنصرية والتميز والفوقية والعلوية والتفرقة، التي أعمت قدرتنا على الحكم على الأمور بعدالة وسوية حتى أسفر كل ذلك عما نحن فيه. المسألة ليست «داعش» ولكنها دعشنة قديمة نعيشها جميعا، وكان من الطبيعي أن نحصد ثمارها.