التشدد رأسمال «داعش»

TT

اتكأت «داعش» في العراق على مظالم السنة والأكراد لتحصد كل هذه المكاسب على الأرض في وقت قصير. ضيم نوري المالكي، رئيس الحكومة، ورئيس كل شيء في العراق، حتى إنه رئيس الدمار والخراب، دفع بالعشائر السنية للانتصار لنفسها ولو استعانت بالشيطان، و«داعش» ليست أقل شأنا من ذلك. هذا الحال في العراق، البلد الذي ترتعش قبضته الأمنية منذ سقوط نظام صدام حسين، وتكشف لنا الأخبار المتواترة أن جيش المالكي الذي أنفق عليه مليارات الدولارات ذهبت هذه الأموال حسرات عليه.

ماذا عن دول المنطقة الأخرى؟ لماذا تظن «داعش» أنها تستطيع بسط نفوذها لتكون دولة الخلافة الإسلامية؟

ليس سرا تعاطف بعض عامة الناس مع هذه التنظيمات. منذ أحداث سبتمبر (أيلول) 2011 كانت جموع من أهالي المنطقة، والمسلمون حول الأرض بشكل عام، حتى أولئك المقيمون في الغرب، يجاهرون بميولهم تجاه فكر «القاعدة»، على الأقل في جزئيته العامة من حيث كونه يعتمد حكما إسلاميا مناهضا لأميركا، مع تحفظهم على أعمال العنف والقتل التي تنفذها. بمرور الزمن تحقق إدراك جمعي بأن «القاعدة» خطر وشيك، مرد هذا الإدراك بشكل أساسي أن هؤلاء المتعاطفين أصبحوا في مرمى إرهاب «القاعدة»، فتحول التنظير إلى مواجهة للواقع المر.

ظروف العراق واضحة، تمدد «داعش» معلوم الدوافع، إنما العراق ليس سوى طرف الحلم، منتهى أحلام «داعش» تتحقق حينما يرسمون خطا مستقيما يربط الموصل العراقية بعدن اليمنية.

الحقيقة أن المتعاطفين مع «داعش» ليسوا فقط على أطراف هذا الخط المستقيم، فهناك أصوات تأييد تأتي من شمال أفريقيا، والسودان وموريتانيا وباكستان وإندونيسيا. هذه البلدان لا تعاني من مشكل الطائفية كما في العراق، إنما لكل بلد ورقة تستخدمها «داعش» لتثبيت أقدامها، كما تحلم هي على الأقل.

من وجهة نظري أن «داعش» وأي تنظيم آخر متطرف، لن يجد قبولا إلا داخل بيئة تعتمد التشدد منهجا في فهم الدين، وهذه البيئة حاضرة، نسكنها وتسكننا لا شك في ذلك، والبراهين لا نكاد نحصيها.

من الملاحظ على عامة الناس هذا الميل إلى الغلو، والاطمئنان إلى المشقة في ممارسة العبادات، والركون إلى التضييق على النفس في ممارسة الشعائر. تنمو هذه الثقافة حتى تغدو هي المنهج، حتى إن الاعتدال في التعبد أصبح غريبا ومستهجنا كأنه منقوص الأجر.

في فتوى للعلامة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، سئل هل لإفطار المسافر أيام معدودات؟ فقال لا. استنكر بعض الدعاة المتشددين هذه الفتوى التي تعني أن المسافر له أن يأخذ برخص السفر في الصلاة والصوم بغض النظر عن المدة التي يغيب فيها عن محل إقامته، ومع هذا الاستنكار أخذ الكثير من الناس الموقف نفسه. لماذا لم يتقبلوا فتوى تحمل في مضمونها روح الإسلام في رفع الحرج وتيسير التعبد؟ الجواب أن البيئة العامة اعتادت التشدد وتكيفت معه. ولو أن ابن عثيمين أفتى بأن لا رخصة للمسافر سوى يوم واحد لقبلها الناس، لأنها توافق قناعتهم أن الأجر في المشقة، وأن العبادة المعتدلة منقوصة. وكان قد ذهب ابن عثيمين إلى القول إن من يترك الصلاة فليس بكافر، إلا إن تركها مطلقا، ومن صام يوما وترك يوما فلا يكفره، ولكنه في حكم الفاسق. فإن كان ابن عثيمين، عالم الدين الرباني الوجيه، لا يكفر تارك الصلاة والصوم، فمن أين جاءت تسهيلات التكفير لدى تجار الدين؟

في رحلة عودتي للسعودية في رمضان الفائت، لاحظت شحوب المسافرين، وعلامات الإجهاد والتعب عليهم، حتى كاد أحدهم يسقط أثناء دخولنا للطائرة، وكانت الرحلة في منتصف النهار. فيما بعد فهمت أنهم صائمون. وفي هذا دلالة خطيرة على العمق الذي وصلت إليه ثقافة التشدد. في حديث شريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه». تعبير واضح عن سماحة الدين الذي يهدف إلى أن يصل العابد إلى حالة من الاستمتاع بالتعبد لا المعاناة والتضييق. وفي هذا الصدد يقول ابن عثيمين إن إفطار الصائم حين يجد التعب والمشقة في السفر واجب عليه، حيث كان بعض أصحاب الرسول عليه السلام قد شكوا من مشقة الصوم في السفر، فأخذ الرسول ماء وشرب أمامهم، وشرب بعضهم معه، وحينما قيل له إن فيهم من أكمل صيامه قال: «أولئك العصاة»! أي أن صومهم أقرب للعصيان منه للطاعة.

وأتذكر أنه حصل لي مع الشيخ عبد الله الغديان رحمه الله، عضو هيئة كبار العلماء في السعودية، نقاش حول بعض الوعاظ والدعاة الذين أغرقونا بفتاوى فيها من التكلف والمشقة ما الله بها عليم، حتى جعلت من النصب والتعب جزءا لا يتجزأ من سلوك التعبد، من صغيرها إلى كبيرها. فقال لي مختصرا عبارة فاصلة: تذكري دائما أن أي عبادة يجد فيها العابد حرجا أو مشقة فإن الله لم يأمر بها.

كثير من الناس في المنطقة قد لا تتفق مع «داعش» في وحشيتها وعنفها، ولكنها ضمنيا توافقها على منهجها الديني المتنطع، الذي يغلق الباب على المرأة في المنزل، ويجلد من لا تمتثل للبس للحجاب على الطريقة الداعشية، أو من يستمع إلى الأغاني ويلعب كرة القدم، لأن نمط الحياة هذا يشعرهم أنهم أقرب إلى تحصيل الأجر.

التشدد هو بذرة الشر، له من يزرعه ويرعاه ويغذي المجتمع به ليكون مطواعا سهل الانقياد، وفي حين يقول الله تعالى: «وما جعل عليكم في الدين من حرج»، جعل تجار الدين الحرج أساسا للعبادة الصحيحة، لتتحول الجموع بعد هذا من عبادة لله إلى أن تكون مستعبدة باسمه.

[email protected]