على الولايات المتحدة استغلال نفوذها بمسؤولية

TT

إنها فضيحة! إنها مؤامرة! إنها حرب اقتصادية!

أقر بنك «بي إن بي باريبا» الفرنسي مؤخرا بالذنب، لانتهاكه العقوبات الاقتصادية الأميركية ضد السودان وإيران وكوبا، ووافق كجزء من التسوية على دفع نحو 9 مليارات دولار أميركي وتعليق بعض خدمات المقاصة المهمة للبنك بالدولار الأميركي.

ولا تعكس شدة الجزاءات وهي الأكبر التي فرضت على مؤسسة مالية لمخالفتها عقوبات أميركية الحجم المذهل للتعاملات الممنوعة التي تمت خلال النظام المالي للولايات المتحدة فحسب، بل تعكس أيضا المدى الذي مضى فيه البنك في خداع السلطات. وكشفت مستندات داخلية أن موظفي «بي إن بي باريبا» زوروا السجلات وعتموا على البلدان التي يتعلق بها الأمر حتى بعد أن أدركوا بصفة شخصية أن بعض الجهات التي خدموها جزء من «كارثة إنسانية» وتدعم الإرهابيين بشكل مباشر.

بعبارة أخرى كان مسؤولو «بي إن بي باريبا» يعلمون طوال الوقت أنهم يسيئون التصرف من الناحيتين الأخلاقية والقانونية. ولكن بغض النظر عن ذلك يؤكد الساسة الفرنسيون أن المشكلة الحقيقية هي أنه لا يجب أن تحشر الولايات المتحدة أنفها في نشاط هذا البنك.

واجه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الرئيس أوباما الشهر الماضي بشأن موضوع «بي إن بي باريبا» في احتفالات ذكرى إنزال نورماندي، وأصر على أن يتدخل أوباما لتخفيف الغرامة المقترحة. كما تبنى هولاند قضية البنك وبحثها مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وبعض الحكومات الأوروبية الأخرى بحسب «الفايننشيال تايمز». ولا تزال الوكالات والجهات المنظمة للنشاط البنكي في الولايات المتحدة تحقق في أنشطة بنوك أجنبية أخرى منها كما يقال بنك دويتشه بانك وكوميرزبانك الألمانيان وبنك يوني كريديت الإيطالي وبنكا كريديت أغريكول وسوسيتي جنرال الفرنسيان، التي قد تكون خالفت بعض حالات الحظر التجاري. وقد تكون الجزاءات في تلك الحالة شاقة بالمثل. ولمّح الساسة الفرنسيون أن الولايات المتحدة منخرطة في انتزاع النقد من الأجانب الذين لا حول لهم ولا قوة، وتحاول إعاقة البنوك المنافسة للبنوك الأميركية. وقال وزير الاقتصاد الفرنسي أرنو مونتبورغ مؤخرا إن الغرامات الكبيرة «توفر بعض الامتيازات أحيانا في الحرب الاقتصادية» وأضاف قائلا: «ربما ينبغي علينا أن نقلدها».

ولا يهم فرض الجهات المنظمة لغرامة أكبر مؤخرا على بنك «جي بي مورغان تشيس» قدرها 13 مليار دولار أميركي على رهنه العقاري أو أن بنك أميركا يتوقع عقوبة ثقيلة مماثلة. نحن الأميركان الفتوات عبر الحدود لجأنا لسرقة «مصروف غداء» فرنسا فقط، لأننا قادرون على ذلك. وليست بجديدة محاولات الولايات المتحدة للحد من تعاملات الشركات العالمية مع الإرهابيين وعصابات المخدرات والساسة الفاسدين.

أشار أحد مسؤولي بنك ستاندرد شارتارد في لندن في رسالة بريد إلكتروني مسربة عام 2006 إلى الأميركان بكلمة «أنتم»، إذ يقول: «من أنتم كي تخبرونا وتخبروا بقية العالم أننا لن نتعامل مع الإيرانيين».

بالفعل من نحن حتى نمارس مثل ذلك التحكم على سلوك الأجانب؟

لم نعد شرطي العالم فقط، فبفضل وضعنا كأكبر سوق في العالم والضامن لأكبر احتياطي نقدي، أصبحت الولايات المتحدة ضمير العالم الاقتصادي كذلك. ومن وجهة نظري ذلك أمر طيب للغاية، طالما أنه يشهر وضعنا كقوة اقتصادية عظمى بمسؤولية.

حاولت أميركا أن تكون «مدينة على تل» منذ أيام المستوطنين الأوائل الذين يتحدثون الإنجليزية، ولاعتقادنا أن جميع العيون موجهة صوبنا حاولنا أن نقود عن طريق ضرب المثل. وكان نجاحنا في إقناع الآخرين لتبني قيم المساواة والحرية التي ندعيها لأنفسنا، كما هو التزامنا بها مشوشا. وكنا عندما لا يبصرون الضوء نحاول أحيانا فرض مثلنا (ومصالحنا) على الآخرين بالقوة، ونجبرهم على تبني الطريق الوحيد نحو الديمقراطية والحرية واحترام الحياة الإنسانية.

واليوم وبعد مضي 238 عاما منذ انطلاق التجربة الأميركية لدينا سلاح أكثر تفوقا وسلما: النفوذ الاقتصادي. إننا نعيش حاليا إن لم يكن بالضرورة للأبد، في عالم نستطيع فيه استغلال قوانا الاقتصادية الكبرى لضغط الآخرين للتصرف بصورة كريمة أكثر. بوسعنا أن نقول للعالم: إن كنت تريد أن تتعامل معنا تجاريا أو حتى تجري معاملاتك بعملتنا، فلا يمكنك أن تكون بحكم الأمر الواقع، البنك المركزي لحكومة السودان. ذلك صحيح حتى وإن كان وطنك لا يرغب في منع مثل ذلك الاستغلال.

إن العقوبات التجارية (والقوانين مثل قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة) هي بالضبط أنواع السياسات التي يجب اتباعها لجعل العالم مكانا أفضل من خلال نفوذنا الاقتصادي، بدلا عن – ما أمكن ذلك في حده الأقصى - نفوذنا العسكري.

الله أعلم ما إذا كانت القوى الاقتصادية الكبرى الناشئة تحقق نفس النفوذ الاقتصادي الذي لدينا، فستكون أقل إحساسا بالضمير بالنسبة لاستغلال نفوذها من أجل تحسين وضع الإنسانية.

* خدمة «واشنطن بوست»