تونس: هل انتهت الأصولية؟

TT

يبدو أنه ما من شيء أوضح من فشل ما كان يعرف بالربيع العربي إلا فشل الحكم الأصولي في إدارة الدولة في العالم العربي، إنه فشلٌ جديدٌ يضم إلى الفشل القديم. فشلت الأنظمة الأصولية التي جاءت بالانقلاب العسكري في السودان وفي غزة، وفشلت الأنظمة الأصولية في إدارة مصر وتونس، والنظامان الإخوانيان سقطا برغبة شعبيةٍ عارمةٍ في الأولى وبصناديق الاقتراع في الثانية.

جاءت نتائج الانتخابات التونسية معبرةً عن تململٍ واضحٍ من حكم جماعة الإخوان المسلمين المتمثل في «حركة النهضة»، وفاز بالانتخابات حزبٌ مدني هو حزب «نداء تونس» الذي يمثل تجمعا مدنيا لا علاقة له بالأصولية على الرغم من تنوع الأطياف السياسية المنضوية تحته، وهو حصل بحسب النتائج على 85 مقعدا، وتلته حركة «النهضة» بـ69 مقعدا، يليها حزب «الاتحاد الوطني» الحر بـ16 مقعدا، ثم «الجبهة الشعبية» بـ15 مقعدا، ثم حزب «آفاق تونس» بـ8 مقاعد، وتوزعت بقية الأصوات على أحزابٍ أصغر.

لكن هل يعني هذا أن تونس قد تجاوزت الأصولية مرةً واحدةً وإلى الأبد كما يطرح المتفائلون؟ النتائج تقول بعكس ذلك، فقد جاءت «حركة النهضة» ثانية بفارق 16 مقعدا عن حزب نداء تونس، وبالتالي فإن التفاؤل في غير مكانه وإن كان من الجيد إبعاد الحركة الأصولية عن الحكم.

آخرون من المتفائلين هم أولئك الذين بشروا بالربيع العربي وعلّقوا عليه الآمال العراض والأماني العذاب، فهم يريدون الآن أن يقولوا للجميع لقد كان رهاننا على الربيع العربي رهانا صحيحا، والصحيح أن تونس الصغيرة وسط حرائق الأصولية المتفشية في طول العالم العربي وعرضه لا يمكن لها أن تلغي حقيقة الفشل الذريع لذلك الربيع المزعوم الذي جعل الخيارات لدى البعض تقتصر على الأصولي أو الأكثر أصولية، وهذه الفئة المتفائلة تفتش عن بصيص أمل أو شماعة رمزية تعلق عليها خيباتها المتتالية منذ مطلع 2011.

الذي لا ينقضي منه العجب هو أن «إخوان الخليج» يصرون دائما على نسيان أوطانهم ويغضون الطرف عن أعدائها الذين كشروا عن أنيابهم قبل فترة قصيرة من الزمن، وعلى رأس هؤلاء زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي الذي ظل على نهج ثابت منذ حرب الخليج الثانية وغزو صدام حسين للكويت 1990 وصولا لتصريحاته المسيئة لبلدان الخليج عام 2012، وهم بسبب من أمميتهم الأصولية المعروفة لا يعترفون بالأوطان والدول العربية الحديثة.

لئن نسي هؤلاء تاريخ الغنوشي فإننا لن ننسى، لن ننسى وقوفه مع صدام حسين ضد دول الخليج في لحظة خطيرة وحاسمة من تاريخ دول الخليج، وموقفه كان متطابقا مع موقف جماعة الإخوان المسلمين الأم في مصر وفروعها في عدد من الدول العربية، وكذلك فرحه واحتفاؤه هو وجماعته بالجمهورية الإسلامية في إيران والتي ظلّ وفيا لمحورها في المنطقة وعنصرا في المحور الإخواني الإيراني الذي كان يعرف بمحور الممانعة والمقاومة الذي انفضح حتى آخر عنصر فيه بعد الأزمة السورية ضدا لمحور الاعتدال الذي تمثله الدول العربية، واستمر الغنوشي حتى بعد 2011 يوجه الدعوات لعناصر من «حزب الله» اللبناني الذي يقتل الشعب السوري.

إضافة لهذا كله، وفي استمرار له، وتذكيرا للغافل وتنبيها للجاهل، فإنه في عام 2012 تهجم راشد الغنوشي في كلمة له في «معهد واشنطن» في الولايات المتحدة على المملكة العربية السعودية وبقية دول الخليج، وقال بالحرف الواحد بحسب التسجيل الذي سرّبه المعهد نفسه: «الثورات تفرض على الملكيات العربية اتخاذ قرارات صعبة، فإما أن تعترف بأن وقت التغيير قد حان، أو أن الموجة لن تتوقف عند حدودها لمجرد أنها نظم ملكية»، وهي كما يرى الجميع دعوة فجة لتخريب الملكيات المستقرة في دول الخليج ومحاولة لنقل حرائق الفوضى وخرائب الأصولية إليها.

ربما كان بالإمكان تفهم متطرفي الأصوليين «الإخوان» في وقوفهم مع «الجماعة» ضد دولهم وأوطانهم، فهذه الشريحة قد باعت ولاءها منذ أمد، وانخرطت في مشروع الجماعة الأممي الرافض للأوطان، ولكن الذي لا يمكن تفهمه هو أن يدافع بعض «إخوان الخليج» عن كل خطوة تتخذها الجماعة وكل سياسة تنتهجها وكل محور تأرز إليه سواء كان المحور الإيراني سابقا أو مركز الثقل الإخواني الجديد في بعض الدول الإقليمية كتركيا وقطر، ثم يدعون في الوقت نفسه أنهم وطنيون مخلصون وأنهم لا يضمرون لأوطانهم إلا كل خيرٍ.

إحدى أهم سمات خطاب جماعات ورموز الإسلام السياسي هي التلاعب بالمفاهيم، وهو ما كان واضحا جدا في تعاملهم مع المفاهيم الحديثة بعد «الربيع الأصولي» مثل «مفهوم الديمقراطية» أو «الحرية» أو «حقوق الإنسان» وغيرها الكثير من المفاهيم التي اتضح يقينا أنهم يستخدمونها كشعارات فحسب لا عن إيمانٍ بها وتعامل معها بحسب دلالاتها المعروفة، ومن هنا فإن ادعاء البعض بأنه لا يريد لوطنه إلا كل خير يحتاج إلى تفصيل عن المقصود بمفهوم «الخير»، لأنه يعني لدى بعضهم سقوط بلدانهم ودولهم وتمكين حكم جماعة الإخوان المسلمين فيها.

هذه ليست مبالغةً على الإطلاق، فمن يقرأ أدبيات الجماعة ويتعمق في تاريخها ويغوص في آيديولوجيتها يعلم جيدا أنها منذ قيامها وهي تسعى للوصول إلى السلطة، وهي بهذا لا تقرّ بمشروعية الدول الوطنية الحديثة في العالم العربي والإسلامي، بل وترى إسقاطها واجبا شرعيا لن يتمّ التمكين للإسلام أي الجماعة إلا به و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ»، بحسب تنظيراتهم المعروفة.

إن الحدث التونسي اليوم يمثل نموذجا كاشفا عن مدى صلابة الموقف وصحة الرؤية لدى العديد من المثقفين العرب الذين يخطئون وينكشف خطؤهم ثم يصرون على مزيدٍ من الخطأ، ويوضح عقدة «القابلية للانخداع» لديهم، وبدلا من أن يستفيدوا من خطئهم التاريخي في قراءة الأحداث بعد 2011 ويقرّوا به ويعاودوا قراءة المشهد من جديد، فإن البعض بدلا من المراجعة يصرّ على التفتيش عن مخرجٍ يبرر به الخطأ ويكرسه.

أخيرا، يبدو أن النخب العربية في غالبيتها عاجزة عن اتخاذ مواقف ثابتةٍ من الأصولية، وإذا كان هذا شأن النخب فمن يلوم الشعوب الأقل ثقافة بطبيعتها والتي يفترض بهذه النخب تنويرها؟