شعوب تتغير!

TT

هل الدول والشعوب كائنات حية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وبالتالي لديها القدرة والإمكانية على قبول التغيير والتطوير من حال إلى آخر، أم أن «قولبة» الثقافة التي تشكلها تظل أقوى وأكثر تأثيرا؟ هذا السؤال يبدو أكثر من بديهي ومستحق جدا وسط الكم الهائل من الأحداث المتلاحقة التي تحاصر المنطقة العربية، وتهدد دولا بأكملها سواء من ناحية إعادة رسم حدودها وتقسيمها أو إطلاق حروب أهلية مدمرة.. كل ذلك يوحي ويؤكد أن المنطقة في مرحلة غربلة كبرى لم تشهد مثلها من قبل. هناك «غث» عظيم يجب الخلاص منه؛ غث ديني ولد الخزعبلات والتشدد والتطرف والتكفير بأشكال مهولة أدت إلى أنهار من الدم وزهق للعشرات من الأرواح البريئة، وهناك «غث» سياسي مهول أدى إلى بروز أنظمة فاسدة وقمعية وطاغية قهرت شعوبها وسلبت حريتها وكرامتها ومدخراتها.

وعلى الرغم من أن الخسارة الأعظم دائما ما تكون في الأرواح التي يفقدها العالم العربي، فإنها خسارة عظيمة ويصعب وصفها وتعويضها، وطبعا لا يمكن إغفال أحجام الدمار الذي حل في المدن والقرى، والمتأثرة بسبب دائرة العنف الدموية، ناهيك عن الآثار النفسية التي صاحبت كل ما حصل ولا يزال يحصل، ولكن هناك بعدا آخر لا يقل أهمية في سياق سرد «التكلفة وحسابها»، وهي هجرة الأدمغة من المنطقة؛ فلقد خسرت المنطقة الآلاف من الكفاءات المهمة، خرجت من سوريا ولبنان ومصر وتونس والعراق والسودان واليمن، كفاءات شابة وناجحة في مختلف المجالات التي تحتاجها المنطقة، وستستفيد منها دول أخرى حول العالم بلا شك. ولكن لا بد من النظر إلى التاريخ الإنساني، وخصوصا المعاصر منه، لما فيه الكثير من الدروس والعبر والفوائد، فبالتمعن لما أصاب ألمانيا النازية بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الدولة التي كان ينظر إليها على أنها مصدر الشر والخراب على العالم، تمكنت هذه الدولة من «تنظيف» و«تطهير» نفسها تماما من كل الإرث النازي، وذلك باستئصال الداء من الجذور، وتم تجريم كل ما ينتمي إلى هذا الفكر المدمر، ونمت ألمانيا وتفرغت للتعليم والتنمية حتى أصبحت إحدى أنجح الدول حول العالم وزعيمة لأوروبا بلا منازع.

أيضا، ها هي الدول التي خرجت من تفكك دولة يوغوسلافيا بعد الحرب الأهلية التي عانت منها.. تخرج كل منها على حدة بشكل سوي وتسير نحو التنمية والحرية والديمقراطية والرأسمالية المسؤولة لتعيد تشكيل هويتها ومجتمعها بشكل أكثر احتراما وسوية وعدالة.

وما ينطبق على «دول» يوغوسلافيا ينطبق أيضا على دولتي «التشيك» و«سلوفاكيا» اللتين كانتا ذات يوم دولة واحدة، وتم «الطلاق» الحضاري بينهما دون إراقة نقطة دم واحدة، وها هي كل دولة منهما تنطلق نحو البناء والتنمية والتطوير بنجاح واستقرار.

وفي أميركا اللاتينية كانت البرازيل مضربا للمثل في الكسل والفساد والفوضى والطغيان السياسي حتى حصل لها الاستقرار المطلوب، وتم تبني الخط الديمقراطي بشكل واضح وسلس، وتم التركيز على البناء الاقتصادي الجاد لتصبح البرازيل إحدى أهم القوى الاقتصادية المؤثرة في العالم اليوم، وتصبح قادرة على إنتاج كل شيء من الإبرة حتى الصاروخ، كما يقول المثل المعروف.

كذلك هناك المثل القريب منا، وهو المثل التركي، تركيا التي كانت يوما مرتعا للتقلب الاجتماعي الحاد، ونظام اقتصادي متدهور ينخره الفساد والتخلف، ولكن كل ذلك الأمر تغير بعد اتباع سياسات جادة ومحاسبة مسؤولة وشفافية حقيقية مكنت من أن يكون هناك انتقال من حال إلى حال آخر تماما أكثر جدارة وقوة وأهمية.

كل هذه الأمثلة تؤكد أن التغيير ممكن إذا ما توفرت له عناصر النجاح، وأن الصورة القاتمة هي حال مؤقت مهما كان مؤلما وشديد السواد، ولكنه يبقى حالا مؤقتا.

الحال العربي مهما بدا سوداويا اليوم إلا أن الأمل يبقى قائما في غد أفضل.