عندما حاصرت الحمير الفيل

TT

في الغالب أنا في طريقي إلى أقصى جنوب الوادي، فمن خلال نافذة القطار العريضة كنت أرى أرضا شاسعة أشبه بالصحراء، هناك مخلوقات قادمة من بعيد، هي تجري مسرعة بل هي أسرع من القطار، بدأت أتبين ملامحها هي مجموعة من الحيوانات تطارد حيوانا ضخما، هي مجموعة من الحمير تطارد فيلا هائل الحجم، ترى ما الذي أتى بالفيل إلى هذه الأنحاء؟ لسنا في الهند ولا نحن بالقرب من غابة أفريقية، وكيف اكتسبت هذه الحمير هذه السرعة المذهلة، ومن هم راكبوها، من شكلهم العام هم قادمون من أحشاء المدينة، أي من ذلك النوع الذي لا تعرف له مهنة محددة. تمكنوا من حصار الفيل، أوقفوه وأحاطوا به، واحد من فرسان الحمير هؤلاء صعد على ظهره ووقف ثابتا في زهو وكأنه يعلن انتصارهم في معركة الاستيلاء على الفيل. ومضى القطار في طريقه، القطار هو قطار النوم الذي يعمل بين مصر وأسوان، لا بد أنني في طريقي إلى أسوان، ألقيت نظرة أتأمل فيها ملامح الغرفة.. يا إلهي كم تدهورت أحوال القطارات في مصر، هذه الغرفة لا تشبه بحال تلك الغرفة التي نمت فيها وأنا في طريقي إلى أسوان في نهاية عام 1967.. واستيقظت من الحلم.

لكل واحد منا لا وعيه الخاص الذي يستخدم مفردات خاصة به أو بمعنى أدق خاصة بصاحبه، وعمله هو إخراج الحلم تماما كعمل المخرج في العمل الدرامي. وهو أشبه بالطفل العابث الذي يقول أمامك كلمات تعجز عن فهمها، هي مجرد رموز تشير إلى معنى أنت فقط القادر على الوصول إليه. يعني أحلامك لا أحد يقدر على تفسيرها سواك، ولذلك ترى المحلل النفسي يسألك أنت عما رأيته وبماذا تذكرك كل لقطة.

هناك بالفعل فرسان يركبون الحمير هذه الأيام، ولفرط إحساسهم بالضآلة والدونية يطاردون الأفيال ويستولون عليها، ولكن من هو ذلك الفيل.. هل هو أنا؟ استبعدت ذلك على الفور، فلم يحدث أن فكرت في نفسي باعتباري فيلا. كما أنه من المستحيل أن يقوم اللاوعي بإخراج هذا المعنى بكل هذا الحرص على سهولة فهمه. لا.. لستُ هذا الفيل.. كما أن أعدائي ليسوا من راكبي الحمير.

لنمعن النظر في آخر لقطة، غرفة النوم ذكرتك برحلتك إلى أسوان بعد هزيمة 1967 مباشرة، في ذلك الوقت قرر عدد كبير من المثقفين أن يبتعدوا عن القاهرة ليعملوا في الأقاليم، وذهبت أنت إلى أسوان وقمت بإخراج عرضين مسرحيين من تأليفك.. ونجحت نجاحا مدويا في ذلك الوقت.

اللاوعي هنا لجأ لما يسميه النقاد المعادل الموضوعي (Objective Correlative) أي قام بتأليف مشاهد معادلة موضوعيا لما تفكر فيه أنت.. أضخم شيء في حياتك هو المسرح.. الدراما.. هي هذا الفيل.. هذا الفيل وقع أسيرا في أيدي الفرسان راكبي الحمير.

والله أعلم.