صحافة الكبار: «العبد لله» باحثا

TT

بدأت هذه المجموعة على أساس أن تكون نحو ثلاثة أعمدة، مشاركة لـ«الأهرام» في الاحتفاء بذكرى كاتبها وكاتبنا الكبير أنيس منصور. لكن الرسائل توالت، وأين فلان؟ ولماذا لم تذكر فلانا؟ مثل هذا العمل يتطلب عملا مطولا لست مؤهلا له الآن، بعيدا عن مكتبتي الرئيسية ومتنقلا بين المطارات والمناخات. إلى اللقاء في مناسبة أخرى، وسوف أضيف، إكراما لغامري المحبّر بالمحبّة والثقة، حلقة أخيرة.

لا يجوز أن نذكر الرواة أو المحدّثين أو الحكواتيين، من دون التوقف عند العبد لله، المعروف أيضا باسم محمود السعدني. وقد طغت صورة الساخر الضاحك الضحّاك على العبد لله، لكثرة ما كان ضوضائيا صاخبا مثل «نقار الخشب» في الرسوم المتحركة، لا يمكن أن يمر بك أو تمر به إلا وتقهقه مثله. بعد وفاته اشتريت كل أعماله المطبوعة لأكتشف شخصية أخرى لا تقل روعة. العبد لله الباحث والمفكر والداعي الاجتماعي. خلف الضحكة المجلجة والروايات المثيرة والـ«خذ بالك بقا يا عم محمود»، كان في العبد لله فرقة إنسانية من الحزانى والقلقين والغيورين على الناس والغلابة والبسطاء ومن حراس قضاياهم وهمومهم. عالج جميع المآسي بالفكاهة وأحيانا بالحدّة. لكن عندما تقرأه اليوم تجد أن ذلك الباحث اللماح قد غلبك وضحك منك عندما أخفى نفسه وراء قناع الساخر المقهقه.

خدعك، تماما مثل الفلاح المصري الذي تعتقد أنه عصا وجلابيّة ولهجة صعيدية، لكنه في الحقيقة غريزة ذكاء وحرص وحسن تدبير وحسن سليقة. ومحمود كان مصريا في طول أوروبا وعرضها، ولو اضطر إلى نزع الجلابية خارج المنزل. وعندما كان يرن الهاتف في منزل الزميل عماد الدين أديب في لندن الخامسة صباحا كان يرفع السماعة، عارفا سلفا اللازمة الصباحية: فين بقى الفول ما وصلش. لا تنسَ الشطّة يا عماد. وما تنساش تمر الفرن. الله، أنا قلتلك صباح الخير والا لسه؟ طيب يا سيدي، صباح الخير.

غريب المصري وعلاقته بكل ما هو مصري. جمعنا مؤتمر في البرتغال بالدكتور نبيل العربي يوم كان قاضيا في المحكمة الدولية. ولا أدري كيف جاء حديث الأقمشة، فأشار القاضي الدولي إلى قميصه وقال: ما فيش أحسن من القطن المصري في الدنيا! وقبلها بسنوات كان مراسل «الأهرام» في واشنطن حمدي فؤاد في المؤتمر الصحافي في البيت الأبيض، يقول لصديقه الناطق: لكي تكون أنيقا، ما فيش غير القطن المصري!

وكان الناطق باسم الخارجية أو البيت الأبيض يفتتح المؤتمر بالاطمئنان على مراسل «الأهرام» بالعربية: ازايّك يا حمدي! وحمدي كان دائما «منرفزا» كأن أوضاع العالم العربي مسؤوليته وحده. في أي مكان في العالم ترى الصحافي المصري مصريا، سواء كان في اليمين أو اليسار أو العبد لله. إذا التقيت عشرة صحافيين من لبنان قد لا ترى لبنانيا واحدا. وإذا حدث وشعر بحب لبلده، أخفاه أو خجل منه أو اعتذر عنه. حديث الصحافة المصرية لا ينتهي. لا شيء في مصر ينتهي.