العلاقة المصرية ـ السودانية.. حديث ذو شجون

TT

عندما زار الرئيس عمر البشير القاهرة، يوم الأحد 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، غمر السودانيين بكل أطيافهم وطائفتيهم شعور بالارتياح، ذلك أن مصر بالنسبة إلى السوداني لا بديل لها. وهذا الشعور يشمل حتى الذين يعيشون حالة الحساسية الناشئة عن أنه مقابل كل مائة سوداني يحب مصر ويحرص على زيارتها أو يتشوق إلى هذه الزيارة هنالك مصري واحد يفعل ذلك، ولذا فإن كلا من «الخطوط الجوية السودانية» ومثيلتها المصرية ملأى دائما بسودانيين في رحلة الذهاب من الخرطوم إلى القاهرة، وملأى بسودانيين أيضا في رحلات الإياب، عدا حالات نادرة تجد فيها بهذه الطائرات مصريين يقصدون السودان.

وفي بعض المرات استبدل بعض السودانيين من باب التجربة العاصمة الأردنية بدلا من القاهرة للعلاج، لكنهم كانوا في عمان يحنون إلى القاهرة. وعندما نشأت حالات من التوتر في العلاقات بين النظامين سابقا ولاحقا فإن الرأي العام السوداني كان يُبدي الأسف لذلك، ويتمنى عودة الود إلى ما كان عليه. وهذه المشاعر من السودانيين كانت عفوية ودائما دون مقابل بمفهوم المقايضة للعلاقات. وفي إحدى الونسات في منزل الرئيس (الراحل) جعفر نميري مع بعض إخواننا من أهل النظام الاشتراكي في السبعينات، جرت بيننا مناقشة لجوهر العلاقة المصرية - السودانية، ودمغ صاحب الدار العلاقة بعبارة «السوداني مبتلى بحب مصر». وعندما توترت العلاقة بين الرئيسين أنور السادات وجعفر نميري (رحمة الله على الاثنين)، رغم أن الثاني كان الوحيد بين الرؤساء العرب الذي وقف مؤيدا السادات في الخطوة المتمثلة بانفراده إبرام معاهدة «كامب ديفيد»، فإنه كان من دواعي تجاوز العتب من جانب نميري على السادات الذي وعد بـ«موقع قدم» للسودان على ضفاف المتوسط (ميناء بالقرب من الإسكندرية)، أن خفقة ابتلاء السوداني بحب مصر تغلبت على «فيروس» الوعد غير القابل للتنفيذ.

حديث العلاقة المصرية - السودانية حديث ذو شجون أكثر من كونه ذا شؤون بمعنى التوترات العابرة. المهم أن الزيارة التي نشير إليها ولقاء الرئيسين أدخلا حالة ارتياح في النفوس السودانية، لأن توترات السنوات العشر الماضية أتعبت مشاعر «المبتلين بحب مصر»، مع ملاحظة أن الابتلاء يتعلق بمصر الأرض والوطن والمستشفيات والجامعات وليس بالمطلق بمصر الطبقة من المصريين المتشاوفين على السوداني. كما أن لقاء الرئيسين جعل السودانيين يفترضون أن «الإنقاذ» التي تحكمهم وتنشط لترئيس البشير لولاية جديدة ستنهج سياسة جديدة، بحيث تختصر سخاءها في احتضان قيادات إخوانية مصرية تنشط إساءة للنظام في مصر، وستساند عهد الرئيس السيسي في موضوع «سد النهضة» على أساس أن الأخ المصري العربي أَولى بالمساندة من الجار الإثيوبي الأفريقي. واتسعت مساحة الارتياح لأن تصريحات من جانب الرئيسيْن بعد اللقاء اتسمت بالود.

وعاد الرئيس البشير مطمئنا أكثر من ذي قبل، لأن العتب المصري عليه انحسر، ولا يبقى في لائحة المعاتبين سوى أهل النظام الليبي غير المحسوم أمره والذين يتهمون نظام البشير بأنه يساعد «إسلاميي» ليبيا الذين نتمنى ألا يصيب السودان ما أصاب ليبيا من أفعالهم، وكيف أن «جنون التشدد» وصل إلى حد القتل والتدمير وعلى نحو ما هو حاصل في سوريا والعراق واليمن.

فجأة حدث ذلك، بغرض تعكير هذا الصفو الذي يعلِّق الرئيس البشير الآمال عليه وبذلك يجدد ولاية رئاسية جديدة كنا مثل كثيرين نتمنى انصرافه عنها كي لا تلفحه رياح ملل السوداني من البقاء الطويل للحاكم في الترؤس والتي سبق أن لفحت من قبل نظام سلفه جعفر نميري وأوقعت مهابته أسوأ وقعة وهو خارج السودان فكانت مصر الموئل له عملا بقاعدة «السوداني المبتلى بحب مصر».. لكنها السلطة ينجو منها مَن يقتنع بأنها لن تدوم له طالما لم تدم لغيره، أو مَن يحرص على الاحتكام إلى دستور ينص بصريح العبارة على أن الرئيس له ولاية أولى ثم ثانية ثم يودع حتى إذا كان المنصب سيخلو لاعتبارات ناشئة عن متلاعبين بالأصول وبالدستور وبالوطن عموما مثلما هو حاصل في لبنان، حيث القصر الجمهوري حتى تاريخ كتابة هذا المقال خالٍ من الرئيس لليوم السادس والخمسين بعد المائة (أي نحو نصف سنة) وليس هناك من يتعظ أو يخجل من بين رموز العمل السياسي والحزبي والحركي ومن كل طوائف لوحة «الموزاييك» اللبنانية وبالذات الطائفة المارونية التي هي دستوريا وبمقتضى «اتفاق الطائف» صاحبة الحق في هذا المنصب بموجب المحاصصة التي هي الحاضنة لرئاستين (البرلمان للشيعة والحكومة للسُنة) يتشكل معهما المثلث المنقوص حتى إشعار آخر.

هل سيصمد فصل الصفاء في العلاقة المصرية - السودانية بعد زيارة الرئيس البشير إلى القاهرة والتي كانت سبقتْها زيارة الرئيس السيسي إلى الخرطوم؟

ونقول ذلك على أساس أن سياق «مصر للسودان والسودان لمصر» و«مصر والسودان حتة واحدة» بات مجرد عبارة على إحدى صفحات تاريخ زمن مضى، في حين أن النظرة الواقعية لأي حالة عالقة هي الأجدى.

وكفى المصري القوي بالسودان، والسوداني «المبتلى بحب مصر»، منغصات الجفاء والخصومات مع أنها باردة عموما، بمعنى أنه لا اقتتال وإنما مشاكسات لفظية تؤذي المعنويات لكنها تُبقي الأرواح سليمة عكس هذا الذي يحدث في سيناء.