بعد مائة عام

TT

كان هيرودوتس، إذن، أبا المؤرخين، وربما أبا الصحافيين. وفي سبيل «تاريخيّات» أو «تحقيقات»، وفق الترجمة الحرفية، سافر في المدن والأصقاع، يسأل ويصغي ويدوِّن. ثم يمتِّع. قال هيرودوتس، أول «شاهد على العصر»، إنه وضع هذا العمل الجبار «من أجل أن يحذر الناس من أخطار وعبث الحروب». لكن قبل كتابه، القرن الخامس قبل الميلاد، وبعده بعشرين قرنا، لا يزال الإنسان «يشعل الحرب ثم يبحث عن سبب لها فيما بعد».

روى الشاعر البريطاني روديار كيبلنغ، حكايات الإمبراطورية البريطانية في قصائد للأطفال، تحولت إلى حِكَم يرددها الكبار، وأشهرها: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا». لكننا ندرك من خلال هيرودوتس أن ذلك أمر واقع. سوف يتحارب البشر حول أي شيء؛ قطعة أرض، أو جزيرة، أو استعباد، أو مذهب، أو دين، أو امرأة، أو كرة قدم، أو ممر مائي، أو سباق خيل كما بين داعس والغبراء.

تدور «تاريخيّات» أو «حكايات» أو «تحقيقات» بالدرجة الأولى حول حروب الفرس واليونان. ففي عام 490 ق.م. كانت الإمبراطورية الفارسية أوسع مُلكٍ عرفه العالم حتى ذلك الوقت. تراءى لداريوس الكبير أنه من الأفضل أن يضم أثينا، اللاهية في الفكر والسمر، فأرسل إليها جيشا عرمرما. غير أن الأثينيين هزموا القوة الفارسية الغازية في سهل «ماراثون». غير أن الفرس عاودوا الكرة بعد عشر سنوات، بقيادة ملك جديد، احشويروش. حاول الأثينيون رد الهجوم عند مضيق يدعى ثيرموبيلاي، لكنهم انهاروا بعد يومين، واقتحم الفرس المدينة. غير أن اليونانيين عادوا فألحقوا بهم هزيمة مفاجئة عند جزيرة سلاميس.

يحرص مؤرخنا الأول على الشرط الأول للتأريخ: الموضوعية. لذلك، لا يريد أن يقلل من أهمية عدو اليونان الذي جاء إليها بمئات الآلاف. يخبرنا أنه «لم يكن هناك من هو أكثر وسامة أو أكثر استحقاقا للقوة التي تمتع بها احشويروش. فعندما شاهد جيوشه تعبر من آسيا إلى أوروبا راح يجهش بالبكاء. فسأله عمّه لماذا يبكي، فأجاب أنه كان يتأمل كم هي الحياة البشرية قصيرة، وأشعرني ذلك بانقباض شديد. «كل هذه الجيوش هنا، ولكن بعد مائة عام، لن يكون أحد من هؤلاء المنتصرين على قيد الحياة».

آسفون.. ولا الإمبراطوريات هي أيضا تدوم. لكن حكايات المدن والمضائق تتكرر دوما في العبث الإنساني. لا يتعلم المرء من تاريخه ولا من تاريخ سواه. محمود أحمدي نجاد لم يقرأ تاريخ احشويروش في حكايات هيرودوتس، بل في كتاب من رواية واحدة. يقصر الظهور مهما طال، ولكل قوي من هو أقوى ألف مرة.

يفوز من ينظر إلى الحياة والدنيا والرجال والهزيمة والنصر بعينين اثنتين. غرور القوة عين واحدة. وهذه علّة محزنة في الأفراد وفي الجماعات. تطلع داريوس في جيوشه فظن أثينا لقمة سائغة.. لو تأمل أثينا بالعين الأخرى، لما أهدر كل ذلك المال وجميع هؤلاء الرجال.