تجار الحروب ومتسولو الدعم الخارجي

TT

لا شك في أن سقوط الموصل وتكريت وعدد من المدن الصغيرة والقصبات شكل صدمة ترتقي إلى مستوى النكسة، إلا أن العصب الحساس للعراق لم يضرب، وبقيت موارد الدولة مستمرة، وحافظت القوات المسلحة على نحو ثلاثة أرباع تشكيلاتها القتالية ومعداتها وأسلحتها، غير أن هذا لا يقلل من شدة الصدمة معنويا، وحالة الإرباك نتيجة تخاذل سياسيين وتأثر الفلسفة العسكرية، فضلا عن الخلل الميداني الكبير، الذي ترتب على عدم امتلاك العراق لطائرة هجوم أرضي نفاثة واحدة، كأحد إفرازات الصراعات السياسية، والعقاب الأميركي للعراقيين، بسبب الشحن الذي أدى إلى الانسحاب العسكري الأميركي الشامل من العراق.

وبعد 5 أشهر من سقوط الموصل، وشن التحالف الدولي ضربات جوية مساندة للعراقيين، وبعد أن تمكن العراق من الحصول على نحو عشرين طائرة هجوم أرضي وعشرات الهليكوبترات الهجومية، وتطوع مئات آلاف الأشخاص ضمن الحشد الشعبي، ومواصلة الضغط التعرضي في قواطع العمليات، وتشكل حكومة جديدة - ولو أن الوجوه نفسها تقريبا - بدأت المعادلات تتغير بشكل يشجع على ترجيح منطق التفاؤل، بطريقة أسرع كثيرا من الحسابات الأميركية والمتباطئة أكثر من اللازم.

وفي المقابل، بدأ «الدواعش» في تطبيق نظرية الردع والانتقام من العشائر التي تصدت لهم دفاعا عن العراق ضمن فلسفة الدفاع عن الوجود. وما حدث في منطقة هيت من مجازر ضد عشيرة البونمر أصبح خطا فاصلا بين «الدواعش» والعشائر (شمال بغداد وغربها) التي أدركت أن وجودها مرتبط مصيريا بالعراق وتماسك نسيجه الوطني. فحتى قبل أيام، كان الفاشلون من مخلفات سياسيي الفكر الطائفي يرفضون دخول الجيش ووحدات متطوعي أبناء الجنوب إلى المناطق المحتلة. وأمام إجرام «الدواعش»، وعدم قدرة المناطق التي تسكنها غالبية عربية سنية على الدفاع عن نفسها، ولتقوقع سياسيي الصدفة من أبناء المناطق المحتلة كأنهم أصيبوا بـ«الخرس»، بدأت ملامح التلاحم الوطني تنسج خيوطها من جديد.

مع ذلك، لا يزال قسم ممن تجذرت الطائفية والمناطقية والعنصرية والنفعية في جيناتهم، يتسولون على أبواب السفارات ودوائر خارجية كسبا للمال والجاه على حساب معاناة الناس، وتدخل محاولات تفتيت العراق ضمن مفهوم التسول من أجل الحصول على دعم خارجي.

الباحثون عن تدخل بري خارجي يعبرون عن خطل في تفكيرهم، وضعف في قلوبهم، فضلا عن نيات سيئة، كما يعبرون عن أنانية في الطلب من أبناء أمم أخرى ليقاتلوا نيابة عنهم، بدل أن يغسلوا أثر ما ساهموا هم في وقوعه. فبأي منطق يطالب المتآمرون والمتخاذلون أن يقاتل أبناء أمم وشعوب ودول أخرى نيابة عنهم؟ لكن الأحداث سبقتهم، بعد أن أخذ المحبون لوحدة العراق المبادرة في شن عمليات تعرضية أربكت فلسفة «الدواعش» الدفاعية تحديدا والقتالية عموما. وكل ما جرى التداول فيه من أفكار بين المسؤولين الأميركيين والعراقيين أصبح متأخرا، ما يدل على أنه بني وفق تصورات جامدة وحسابات تقليدية لا تتوافق والمتغيرات السريعة.

من البداية، قلنا لهم إن العشائر لا يمكن أن تشكل بديلا عن القوات المسلحة، وإن مشروع الحرس الوطني مضيعة للوقت والجهد وزيادة في معاناة النازحين الأبرياء. فقد كان في مدينة الموصل وأطرافها نحو 26 ألف شرطي، ومثل هذا العدد تقريبا في محافظة الأنبار، ونحو 20 ألفا في تكريت، وتبعثروا في ليلة وضحاها، وكلهم من أبناء المنطقة. حيث أثبتت الأحداث أن قدرة الحسم مرتبطة ارتباطا مباشرا حتميا بتشكيلات الجيش النظامي، الذي لا جيش سواه تحت أي تسميات تنطلق من نيات تستهدف وحدة العراق. وقد ثبت أن كل التشكيلات المحلية لا تستطيع تحقيق مهمة الدفاع من دون دعم مركزي قوي.

إن أفضل ما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة وقوات التحالف الدولي هو: شن المزيد من ضربات الإسناد الجوي القريب أمام تقدم القوات العراقية على المحاور الرئيسية، وتسريع إجراءات مبيعات السلاح والمعدات القتالية الثقيلة التي يطلبها العراق، بما يتوازن وقدرة تأمين الكثافة النارية على «الدواعش»، وتقديم النصيحة لمراجعيهم من السياسيين بالمحافظة على وحدة بلدهم ونبذ المناطقية والطائفية وإظهار عدم استعداد أميركا للتعامل خلاف هذا المفهوم، وفي الوقت نفسه تقديم النصح للحكومة لتأكيد مبدأ المساواة والعدل في التعامل مع العراقيين، وعندئذ تلغى بوابات التسول وتجار الحروب، والعراقيون قادرون على معرفة المصطفين على أرصفة التسول.