انصياع أوروبا الشرقية لسلطة بوتين

TT

لفهم كيف يمضي فلاديمير بوتين في حملته لقلب نظام ما بعد الحرب الباردة في أوروبا، يتعين علينا النظر إلى أبعد مما يجري في أوكرانيا، حيث ينشغل الكرملين بضم دولة انفصالية. أوكرانيا – كما أشار الرئيس أوباما – ليست عضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي وسع نطاق الأمن الغربي والحكم الديمقراطي ليطال عشرات الدول التي تهيمن عليها الديكتاتورية السوفياتية.

لذا، دعونا ننظر إلى الدول الأعضاء في حلف «الناتو»، مثل المجر التي عدّ رئيس وزرائها، مؤخرا، الرئيس الروسي بوتين نموذجا سياسيا يُحتذى، أو سلوفاكيا التي شبه رئيس وزرائها اليساري احتمالية نشر قوات «الناتو» في بلاده بالغزو السوفياتي لعام 1968، بينما عقد وزير دفاع جمهورية التشيك مقارنة مماثلة، كما انضمت الحكومة التشيكية إلى سلوفاكيا والمجر في معارضة العقوبات المفروضة من جانب الاتحاد الأوروبي ضد روسيا أو صربيا، العضو بمنظمة «الشراكة من أجل السلام» التابعة لـ«الناتو»، التي دعت بوتين لزيارة بلغراد هذا الشهر لحضور الاستعراض العسكري في الاحتفال بالذكرى الـ70 لـ«تحرير» الجيش الأحمر للمدينة.

ثم نجد بولندا، التي كانت، حتى وقت قريب، تقود الجهود المبذولة داخل «الناتو» والاتحاد الأوروبي لدعم الحكومة الأوكرانية المحاصرة والموالية للغرب، وتؤيد فرض عقوبات ضد بوتين جراء عدوانه، ورغم ذلك، أمرت رئيسة الوزراء البولندية إيوا كوباتش، وزير خارجيتها الجديد بمراجعة سياسة بولندا تجاه روسيا. ووفقا لما أفادت به صحيفة «وول ستريت جورنال»، فقد أبدت كوباتش قلقها للبرلمان بشأن «عزل بولندا» داخل أوروبا الذي قد يكون سببه تحديد «أهداف غير واقعية» في أوكرانيا.

وبينما كان يغمر أوباما الشعور بالسعادة جراء قيادته «جبهة موحدة» من الدول الغربية أسفرت – كما ادعى – عن عزل بوتين، بيد أنه في الواقع، بدأ عدد كبير من دول «الناتو» الميل تجاه موسكو، ويرجع تفسير ذلك جزئيا لأسباب اقتصادية تتعلق بـ: الاعتماد على روسيا في الحصول على الطاقة، وأسواق التصدير، والخوف من التداعيات المترتبة على تصعيد العقوبات.

ولكن، يبدو أن بعض الدول أيضا تود الحفاظ على أمنها ورهاناتها الآيديولوجية. إنهم يتفهمون أن الأمر لا يستحق اختبار مدى جدية تهديد بوتين بغزو دول الكتلة السوفياتية سابقا، أو ما إذا كان حلف الناتو الذي يقوده أوباما، سيعمل حقا على الدفاع عن تلك الدول، وإلا فلماذا أعلن رئيس وزراء التشيك بوهوسلاف سوبوتكا، بنحو استباقي، أن بلاده لا تريد إرسال قوات «الناتو» إلى بولندا ودول البلطيق كنوع من الردع لروسيا؟ بينما ذهب رئيس وزراء سلوفاكيا الشيوعي السابق روبرتو فيكو إلى أبعد من ذلك؛ حيث أعقب رفضه لقوات «الناتو» برفض مطالبة أوباما بزيادة الإنفاق على الدفاع، ونعت العقوبات المفروضة على روسيا بـ«الانتحارية» و«لا معنى لها». وفي المقابل، بدا ما قام به فيكو ضعيفا بالمقارنة مع خطاب ألقاه رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوروبان، في أواخر يوليو (تموز)؛ حيث عدّ روسيا نموذجا يوضح كيف «يتعين علينا التخلي عن الأساليب الليبرالية ومبادئ تنظيم المجتمع، لأن القيم الليبرالية (في الولايات المتحدة) اليوم تتضمن مظاهر الفساد والجنس والعنف».

لو كانت هذه هي «الجبهة الموحدة»، فعلى ما يبدو أنها من تدبير بوتين وليس أوباما. ومن جانبه، قال لي دامون ويلسون، نائب الرئيس التنفيذي للمجلس الأطلسي: «يطمح بعض السياسيين في أوروبا الوسطى إما للبقاء بعيدا، أو أنهم يتوددون لبوتين، وبالتالي يحققون نتائج أفضل مقارنة بالحلفاء الآخرين عندما تسوء الأمور». وعلى نحو ملحوظ، فإن تلك الأوضاع المتذبذبة في شرق أوروبا جاءت فقط بعد عقد من التوسع الكبير لـ«الناتو» عام 2004 وبعد 10 سنوات على دعم جمهورية التشيك وبولندا بحماسة للغزو الأميركي للعراق. فماذا حدث؟ مثلما أشار روبرت كولسون في إذاعة أوروبا الحرة، فالإجابة تكمن في «الرسالة المفتوحة» التي وجهها القادة السياسيون والمثقفون بتلك الدول إلى الرئيس أوباما في يوليو 2009، عندما عمل – خلال السنة الأولى من ولايته – على التعامل مجددا مع نظام بوتين؛ حيث حذرت الرسالة من أن «الكثير من المسؤولين الأميركيين خلصوا الآن إلى أن منطقتنا يجري إصلاحها مرة واحدة وللأبد».

رفض أوباما ومساعدوه بقوة هذه التحذيرات، وردوا على هذه الرسالة المفتوحة، بأنهم كانوا يعانون من «الروسوفوبيا» (الخوف من الروس). وبعد مرور 5 سنوات، يكرر أوباما أفكارهم بشأن بوتين وكأنها نابعة من بنات أفكاره، ولكن قد يكون فات الأوان: فقد حل محل ذلك «الروسوفوبيا» من توسع حلف الناتو في عدد من العواصم مع الاتجاه لاسترضاء بوتين.

* خدمة «واشنطن بوست»