العصافير تهجر الأوكارا

TT

خلال الفصل الأول من مقاله البديع حول جوهر الإنسان والإنسانية، يسرد الفيلسوف المسلم العظيم ابن سينا، قصة بديعة للغاية عن طائر غامض:

«هل لأحد من إخواني أن يهب لي من سمعه قدر ما ألقي إليه طرفا من أشجاني، عساه يتحمل عني بالشركة بعض أعبائها، فإن الصديق لن يهدي عن السهو أخاه ما لم يظهر في مرآته عن الكدر صفاه، وإني لك بالصديق المماحض، وقد جعلت الخلة تجارة يفزع إليها إذا استدعت إلى الخليل داعية وطر، ويرفض مراعيها إذا عرض الاستغناء فلن يزار رفيق إلا إذا زارت عارضة، ولن يذكر خليل إلا إذا ذكرته مارقة، اللهم إلا إخوان جمعتهم القرابة الإلهية، وألفت بينهم المجاورة العلوية، ولاحظوا الحقائق بعين البصيرة، وجلوا درن الشك عن السريرة، فلن يجمعهم إلا منادي الله».

وكما نلحظ من النص الذي أبدعه ابن سينا، فإنه لم يشدد على الإسلام أو أي دين آخر، وإنما صبّ اهتمامه على لب وجوهر كل دين. ولك أن تتخيل هرما بـ5 أبعاد، هي الحكمة والإيمان والعدالة والحرية والإنسانية. وأرى من جانبي أن هناك جسرا سريا يربط هذه الأبعاد الـ5 ببعضها البعض، وهو جسر الحب.

وقد كان جورج جرداق واحدا من أولئك الأشخاص الذين يجرفنا الحنين إليهم في هذا العالم المجنون. كان جرداق يشدّد على الإنسان والإنسانية. وكان الإمام علي بطله المحبوب. وفي كتابه «علي وسقراط»، يناقش أفكار كل منهما، قائلا: «كلا الرجلين تراث عظيم للإنسانية».

وبذلك يتضح لنا أن جميع القيم ينبغي أن تكون في خدمة ودعم الإنسانية. مثلا، المعرفة والعلم ينبغي أن يكونا مصاحبين للفضيلة. وفي مطلع فصل معنون بـ«علي وسقراط»، يورد جرداق مقولة شهيرة لسقراط: «لا علم بلا فضيلة، ولا فضيلة بلا علم، كما أنه لا جهل بلا رذيلة، ولا رذيلة بلا جهل».

وسعيا لإيجاز القصة الطويلة لعالمنا، يمكننا القول بأننا نعيش في زمن يسوده أشخاص غريبو الأطوار يؤمنون بالدين من دون فضيلة، بينما في الواقع ينبغي أن يكون الدين أساس وجوهر كل الفضائل، ومصدر الحب والعدالة.

وانظر لـ«داعش» في العراق وسوريا، و«بوكو حرام» في نيجيريا، ستجد أنهم يشكلون النماذج المثالية للفكرة سالفة الذكر. كيف أقدم «داعش» على فعل ما اقترفه بحق المسيحيين بالعراق؟ لقد دمروا كنائس تاريخية تمثل كنوزا للبشرية بأسرها، وليس للمسيحيين فحسب. ويذكرنا ذلك بتدمير «طالبان» لتماثيل بوذا الفريدة في باميان بأفغانستان.

في قلب عتمة الليل، كان جرداق بمثابة نجم يتلألأ، وأعتقد أنه كان مفكرا ناجحا للغاية لتمكنه من مزج الشعر بالفلسفة. وقد عاش بقلبه وعقله. وفي شرحه لشخصية الإمام علي، يتحدث في أحد الفصول عن العلاقة بين القلب والعقل. وبطبيعة الحال، عند ربط هذين العنصرين يظهر ثالث جديد هو الحكمة.

وغني عن القول: إن الحكمة تحلق بجناحين ـ الحب والحرية! وبناء على هذه الفكرة، فإن قلبك أكبر من العالم، ويمكن الوصول إلى لب الوجود. ومثلما يقول الإمام علي:

أتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي بأحرفه يظهر المضمر

وجميع عناصر الوجود متوافقة مع بعضها البعض ومتناغمة. من جانبه، يستخدم جرداق مصطلحا شديد الذكاء هو «العدالة الكونية» لشرح العمود الفقري للعدالة، ونظرية الإمام علي حول العدالة. كيف ومتى يمكننا فهم معنى الوجود المتناغم؟ ليست هناك إجابة سهلة عن هذا السؤال، لأنه يتعلق بالنقاء والخير المطلق!

من دون الخير لسنا أحياء، ولم يكن ليصبح هناك اختلاف بيننا وبين الموتى. وقد أورد جرداق عن الإمام علي قوله: «الكذاب والميت سواء، فضيلة الحي على الميت الثقة به، فإذا لم يوثق بكلامه بطلت حياته».

لقد أبدع نيقولاي غوغول رائعته «النفوس الميتة» في منتصف القرن الثامن عشر. وأعتقد أننا نعيش الآن في زمن مشابه، بل وأحيانا يصبح أسوأ. عندما نركز على الخير والإنسانية وعندما نطالع كتب جرداق، خاصة كتاب «الإمام علي: صوت العدالة الإنسانية»، ونستمع إلى قصيدة «هذه ليلتي» و«سمراء النيل»، سندرك حينها أكثر من أي وقت مضى أننا نحيا في زمن يفتقر إلى العدالة والحب.

إننا بحاجة لأن نقيم حياتنا على الإنسانية والحب، وبحاجة كذلك لتجنب الكراهية، وخلق المسافات بيننا والجدالات المدمرة من عينة: أنا مسلم وأنت غير مسلم، أنا شيعي وأنت غير شيعي، أنا علماني، وأنت غير علماني، وما إلى غير ذلك.

إن غياب الإنسانية هو السبب الرئيس وراء المحارق في ألمانيا وروسيا والصين وكمبوديا وإندونيسيا وغيرها. لقد فقد أكثر من 100 مليون شخص حياتهم، بسبب انعدام الإنسانية وغياب الحب.

أما جورج جرداق فكان بمثابة سمكة تعوم في بحر الحب. والجمال هو العلامة الرئيسة للحب. وكما أوضح ابن سينا بمقاله، فإن للجمال والحب هوية واحدة.

وعندما ننصت إلى «هذه ليلتي» نستشعر ذروة الجمال والفن والحب، ونعثر على الأمنيات المفقودة، فهذه ليست مجرد كلمات جرداق، وإنما جزء من روحه. كما تحدث عن ذلك طلال سلمان في مقال له بمناسبة رحيل جورج جرداق.

وباعتبار أنه مسيحي من مرجعيون بلبنان حمل بداخله حبا شديدا للإمام علي، انصب كامل اهتمامه على الإنسانية. وباعتبار أنه فيلسوف وشاعر، كان الحب محور حياته.