سعوديون بلا أقواس: عن وطن يسع الجميع!

TT

في التقاطة صحافية لامعة انفردت «الشرق الأوسط» ببيان «سعوديون بلا أقواس» الذي يمثل، كما يعبر البيان، خطا فاصلا بين ما قبله وما بعده، عطفا على حادثة الأحساء التي سيتذكرها السعوديون طويلا كانعطافة وطنية تاريخية في مسيرة السلم الأهلي بين الطائفة الشيعية والدولة.

تحية إجلال وتقدير لكامل الخطي ورفاقه الذين أخذوا بشجاعة غير مسبوقة المشهد السعودي إلى الأمام بخطوة استباقية مسؤولة جدا، فكتبوا بيان «سعوديون بلا أقواس» الذي يعد وثيقة تاريخية تجدد العقد الاجتماعي لأحد أهم المكونات الثرية في السعودية.

انفرد البيان الشجاع بعدد من السمات التي تجعله تاريخيا، كما أسلفت، فهو في البداية على مستوى الفكرة جاء في توقيت حاسم على أثر الاعتداءات الإرهابية التي لم تستهدف الطائفة الشيعية بقدر ما استهدفت أمن ووحدة المملكة وتماسكها. أهم ميزات البيان أنه استهدف وسيلة إعلام رسمية وليس كباقي البيانات ذات «الأقواس» الحزبية والطائفية والمناطقية التي تتخذ طابع تسجيل موقف معارض ويتم نشره عبر الإنترنت، وهو أمر تشترك فيه كل البيانات من «القاعدة» إلى تكتلات الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وهي بيانات ساهمت في توتير وتثوير المشهد السعودي على مدى عقود منذ حرب الخليج في التسعينات وسبحة البيانات السياسية كرّت عدة مرات بما يشكل تهديدا للسلم الأهلي.

انفرد البيان أيضا بصراحته وجرأته؛ فهو لم يستخدم الإرهاب الذي تعرضت له المنطقة لاستحلاب مكاسب سياسية كما هو الحال في صراع «الديكة» بين رموز التطرف من الجهتين، والتي طالبها البيان بالكف عن تأجيج الموقف، أو كما عبر البيان بدقة، فعلى العلماء والدعاة أن «لا يجلبوا مناظراتهم وجدالاتهم المُنافِحَة عن اجتهاداتهم وقناعاتهم إلى الساحة الإعلامية»، بمعنى أن يكون هناك فصل واضح بين حدود الدرس العقائدي والسجالات النظرية المتخصصة وبين إسقاط ذلك على الواقع السياسي؛ فالإرهاب ليس إلا ورقة «مقامر» لمن يريد أن يستخدمه لضرب السلم الأهلي، ونحن ندرك أن كل المعارضات العربية منذ انفجار الأوضاع بعد فشل الحرب على العراق كانت تستخدم ورقة الإرهاب للضغط على الأنظمة العربية، على اعتبار أنها المسؤولة عنه دون أن تساهم في الحرب عليه أو القيام بمراجعات نقدية جادّة لأسبابه وخلفياته.

تميز البيان بأنه قفز على حالة الاستقطاب الحركي الذي عرفناه بعد الثورة الإيرانية ونشأة صحوة حركية شيعية وسنية بنفس الأدوات واللغة والخطاب والمشروع الانقلابي، لكن مع اختلاف الأهداف وطرائق العمل ومستوى التوتر مع النظام السياسي.

البيان لا يعبر عن حركة نشاز بقدر ما أنه صوت الجماهير العريضة غير المسيّسة، وهي النسبة الأكبر إذا ما قرأنا الحراك المجتمعي السعودي بخصوصية العلاقة بين النظام ومكونات المجتمع الأساسية؛ تكنوقراط، وتجار، وكتل دينية ومناطقية تدين بالولاء على أولوية الأصلح للبلاد، كما أن مرجعية موقعي البيان تمنحهم الشرعية؛ فهم ليسوا مجموعة معارضة خارج البلد، بل أخذوا هذا التحدي وهم يواجهون ضغط وأجواء الضحايا والشهداء لكنهم لم يحولوا ذلك إلى مظلومية سياسية كما يفعل تجار الشنط وصائدو الأزمات.

وكامل الخطي ابن واحد من أهم مرجعيات الشيعة الدينية العلامة عبد الحميد الخطي الفقيه الأصولي المتفنن على طريقة الفقهاء الكبار.

البيان يؤكد أن الحالة السياسية السعودية فوق كل استغلال، على الرغم من التحديات الجسام التي تمر بها المنطقة تحت مصطبة الطائفية والإرهاب وفشل الربيع العربي وتضخم الإرهاب والتشيع السياسي الذي تقوده إيران وتصدره إلى مناطق جديدة، وبلغة قانونية تشريعية «الهوية الوطنية فوق كل انتماء فرعي».

منذ انتفاضات محرم في بداية الثمانينات مع أحداث الحرم، ثم أحداث البقيع بعدها بـ10 سنوات، إلى احتجاجات العوامية التي استغلت نشوة الربيع العربي، ولا صوت يعلو صوت التطرف وتقويض الأمن المجتمعي والسلم الأهلي في السعودية.

البيان تمهيد لمرحلة جديدة تحتاج إلى الكثير من الأدوات والقرارات الحاسمة، كان على رأسها إغلاق قنوات الصراعات العقائدية وتثوير الحالة الطائفية في الخليج من شخصيات لا تحمل صفة التأهيل الشرعي لكنهم يحضرون بكثافة إعلاميا لأهداف معلومة، وهم اليوم يلفهم الصمت ويحاولون القفز على حالة السلم الأهلي والمسؤولية الكبيرة التي اضطلعت بها قوات الأمن التي كان تدخلها السريع وتضحياتها بشهداء الواجب سببا رئيسيا لولادة هذا البيان. بالمناسبة استطاعت الأجهزة الأمنية في أقل من 24 ساعة، رصد المتورطين في الحادث الإرهابي ومتابعتهم في 6 مدن، في مناطق الرياض والقصيم والمنطقة الشرقية.

البيان خطوة أولى في درب طويل يستدعي من كل الأطراف الالتفاف حول مضمونه وتحويله إلى فرصة للحوار والتداول وتوسيع نطاق البحث عن آليات تفعيله وتحويله إلى هاجس مجتمعي، وهو الأمر الذي يحتاج إلى وقت وجهد طويلين، فمنذ 11 سبتمبر (أيلول) احتاجت السعودية إلى أكثر من 10 سنوات لحماية أمنها المجتمعي من براثن التطرف، ولا تزال تكافح؛ فالحرب على الإرهاب كما قال خادم الحرمين الشريفين طويلة جدا.. «سعوديون بلا أقواس» خطوة أولى في غاية الأهمية.

[email protected]