الهروب الأميركي والهجوم الإسرائيلي

TT

مر عهد أوباما في الرئاسة الأميركية بمراحل عدة تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي.

المرحلة الأولى؛ وهي التي «وشوش» فيها أوباما محمود عباس، باتخاذ قرارات حاسمة ضد الاستيطان ومن أجل إقامة دولة فلسطينية، وفي ذلك الوقت قام أوباما بمحاولات مصالحة مع العرب والمسلمين فأغدق في وعوده. وفي ذلك الوقت تقريبا حصل أوباما بصورة غير مسبوقة في التاريخ، على جائزة نوبل للسلام، ليس بفعل ما أنجز، وإنما من قبيل تشجيعه على الإنجاز. وفي حقبة منافسته على الرئاسة السيدة هيلاري كلينتون، وحماسة نائبه جو بايدن، بدأ الرئيس الواعد يتعرف على الصعوبات الجمة التي يزخر بها المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، ومع الزمن صار ووزيرة خارجيته آنذاك أكثر تواضعا في المحاولة، مكتفيا بما فعله أسلافه من إدارة للأزمة، وتجنبا للفراغ ليس إلا.

في ذلك الوقت أيضا، أسقط في يد عباس الذي اعتمد على وعود أوباما وأطلق مصطلحه الشهير: «لقد رفعني أوباما إلى أعلى الشجرة، ثم ما لبث أن نزل عنها دون أن ينزلني معه».

وبعد زيارات متعددة قام بها أقطاب الإدارة للمنطقة، وبعد «البهدلة» التي حظي بها نائبه جو بايدن في إسرائيل، حين أعلن عن طرح عطاءات لبناء الوحدات الاستيطانية الجديدة، بدأ الرئيس الأميركي بالهبوط التدريجي من سماء الشرق الأوسط الملبدة بالغيوم الإسرائيلية، ليصل إلى الأرض، معلنا أنه بالغ في التفاؤل والتبسيط، وأنه أدخل يده في عش دبابير، وبالتالي فقد وجبت عليه التوبة، وآثر مواصلة الجهود لملء الفراغ ورفع الملامة والعتب عن الإدارة الأميركية من قبل حلفائها العرب الذين يسوؤهم كثيرا ابتعاد السياسة الأميركية عن الاستثمار في القضية الفلسطينية.

انتهت الولاية الأولى للرئيس باراك أوباما، وحين فاز في الولاية الثانية ظهر قول ساذج في بلادنا العربية مفاده أن أوباما تحرر من ضغط اللوبي اليهودي في الانتخابات وأصبح طليق اليد لفعل ما يشاء في أمر التسوية الفلسطينية – الإسرائيلية. ومما عزز من هذا الاستنتاج الساذج تلك الهمة العالية والاندفاع العاصف لوزير خارجيته جون كيري، الذي تزوج المسار الفلسطيني – الإسرائيلي، وحدد مهلة الحمل بتسعة أشهر، لنرى على يديه الكريمتين مولودا طال انتظاره واسمه «الحل النهائي للقضية الفلسطينية».

كانت هذه هي المرحلة الثانية من مراحل التحرك الأميركي على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي. وظهر كذلك في هذه المرحلة قول فيه بعض المنطق، وهو أن الوزير كيري الذي كاد يصبح يوما رئيسا للولايات المتحدة لا يمكن أن يستثمر في الشرق الأوسط بهذا القدر من الوقت والحركة دون أن يكون مطمئنا للنجاح، فالذي حدد الولادة بتسعة أشهر هو الحليف الأول وربما الأخير لإسرائيل. وفي هذه الحقبة تطوع نتنياهو للعمل في صفوف الجمهوريين كمحارب يملك أوراقا فعلية لإفشال الإدارة الديمقراطية وهز مصداقيتها. ورأينا ما رأينا من معارك؛ تارة هادئة، وغالبا صاخبة، كان بطلها الأكثر لمعانا هو بنيامين نتنياهو، أما ذلك الذي يقف قبالته فهو سيد البيت الأبيض الذي ما استطاع أن يسجل ولو نقطة واحدة لمصلحته في صراعه المرير مع نتنياهو.

إلا أن السيد جون كيري، الذي يستحق جائزة نوبل، ولكن لـ«الصبر والإلحاح»، ظل يتخيل ضوءا في نهاية النفق، فأرسل فرقه إلى المنطقة، وازدحمت فنادق القدس العبرية والعربية بالخبراء، وانتشر رجال كيري بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفي مقدمتهم بالطبع مارتن إنديك، لعلهم يكتشفون فجوات ينفذون منها إلى حل معقول. وبعد فترة وجيزة، خلت فنادق القدس من الخبراء، وراود مارتن إنديك حنين إلى معهد «بروكينغز» حيث يعمل، وأسدل الستار على المرحلة الثانية، بإعلان كيري فشله في استيلاد الطفل المنشود دون أن يقول «كان الحمل كاذبا».

أما المرحلة الثالثة والأخيرة، فهي مرحلة إيجاد المبرر الموضوعي للهروب من المسار الفلسطيني - الإسرائيلي بالعثور على أولويات جديدة عنوانها الأبرز «الحرب العالمية الثالثة وطويلة الأمد وكثيرة الأطراف على (داعش)» التي دقت أوتادها على مساحات واسعة من أرض اثنتين من أهم دول المنطقة.. سوريا والعراق، ولا يخلو الأمر قبل ذلك وبعده من فتح للملف الإيراني والاشتغال به على مهل دون أن يعرف أحد بالضبط أين وصل الأميركيون في هذا الملف.

وفي السياق ذاته، حدث انتكاس في الرهان على الإسلام السياسي في مصر، وانتكاس آخر في قلب أوروبا وكانت ضحيته الجمهورية الثانية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وموئل أسطوله العظيم؛ أوكرانيا. ولسوء حظنا نحن الفلسطينيين أننا كنا ندفع الثمن مرتين؛ مرة أثناء التحرك النشط حين كان الوزير كيري يطلب منا تنازلات صغيرة من أجل الحصول على مكاسب كبيرة، ومرة ثانية بفعل الهروب الأميركي من العملية السياسية الذي يترتب عليه تلقائيا تسريع في الهجوم الإسرائيلي لأخذ ما تبقى لنا من حقوق، وهذا يتجلى الآن في الانهيار المتسارع لبناء السلام المتداعي أصلا بين الفلسطينيين والإسرائيليين والابتعاد كثيرا، وأكثر من أي وقت مضى، عن أي إمكانية لاستئناف المفاوضات، وتفعيل جهود أميركية لتسوية على الأرض، فحتى مجرد جلوس على مائدة للقول إن هنالك مفاوضات، لم يعد بعد الهروب الأميركي ممكنا.

هذه حكاية المراحل الثلاث للعمل الأميركي على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، وهي حكايات مأساوية حقا، لأنها لم تفشل فقط في بلوغ تسوية، وإنما لأنها أوصلت الأمور إلى ما هو أسوأ بكثير مما كانت عليه قبل عهد هذه الإدارة.