ليت «النهضة» التونسية تعيش بيننا

TT

في رحلة على الطائرة من تونس إلى القاهرة، خلال مايو (أيار) الماضي، كانت شابة جامعية تونسية تجلس على المقعد المجاور، وحين سألتها عن تفسيرها لهذه الدرجة من المرونة، التي كانت قد بدأت تظهر وقتها، بل وقبلها بأشهر، على لهجة حركة النهضة التونسية الإسلامية في خطابها مع الناس، في البلد وخارجه، ردت الفتاة بأن ما تُبديه الحركة في خطابها الإعلامي، ليس مرونة كما قد يبدو الأمر لبعضنا، بقدر ما هو نوع من المكر الذي يُبدي شيئا، ويخفي أشياء، ويخاطب كل وقت، بما ينفع ويُجدي فيه!

طفا الحوار الذي جرى بيني وبين تلك الفتاة، في ذهني، وقفز إلى بؤرة الذاكرة، عندما طالعت بعض ما قاله رئيس «النهضة» راشد الغنوشي، في مؤتمر انعقد أمام مقرها، في تونس العاصمة، مساء الثلاثاء 28 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

كانت المناسبة هي إعلان نتائج انتخابات البرلمان، التي خسرها الغنوشي، وتقدم عليه فيها حزب «نداء تونس» بفارق كبير.. إذ حصل النهضويون، إذا صح التعبير، على 69 مقعدا، من بين 217 مقعدا، هي إجمالي مقاعد البرلمان التونسي الجديد، وحصل «نداء تونس» على 85 مقعدا، وصار من حقه، كحزب فائز، أن يشكل الحكومة المقبلة، مع مَنْ يتوافق معه، على مستوى سائر الحركات والقوى السياسية التي خاضت الانتخابات وفازت فيها.

طفا الحوار بيني وبين الشابة التونسية، في ذهني، رغم مرور أكثر من خمسة أشهر عليه، لأن جملة قالها الغنوشي، في كلمته، تشير إلى أن رؤية الفتاة لما رأيته أنا، ورآه غيري، على أنه مرونة، كانت هي الأصح، وهي الأقرب للحقيقة والصواب.

إذ ما كاد رئيس «النهضة» يجد نفسه أمام الميكروفون، حتى راح يشبه ما جرى في الانتخابات، بالنسبة له ولزملائه في الحركة التونسية الإسلامية، بما كان قد جرى من 14 قرنا من الزمان، بين الرسول عليه الصلاة والسلام، وبين قريش في مكة، وانتهى بصلح الحديبية.

قال الغنوشي إن الصلح قد جاء بعده بفترة قصيرة، فتح عظيم، ثم أضاف: «وما حصل في تونس هو فتح إن شاء الله»!

تحار أنت، في فهم المعاني التي يقصدها الغنوشي، من وراء هذا الكلام، وتسأل نفسك عدة أسئلة لا تستطيع أن تهرب منها، ولا من إلحاحها على ذهنك، إذا ما عاودت قراءة هذه العبارات الواردة على لسانه في تلك المناسبة.

تسأل نفسك، مثلا، عما إذا كانت تونس توازي قريشا، إذا ما جرت مقارنة بين الصلح أيامها، والانتخابات في هذه الأيام.. أم ماذا بالضبط؟!

فما نعرفه، أن الرسول الكريم كان قد خرج من المدينة المنورة، قاصدا مكة المكرمة، في عام 6 هجرية، بهدف أداء العُمرة، والطواف بالبيت الحرام مع بعض أصحابه.. وما نعرفه أيضا، أن قريشا قد برزت إليه، خارج مكة، وكاد الطرفان يقتتلان، لولا أن تم توقيع الصلح الشهير بينهما، وهو صلح قضى بأن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى المدينة، مع أصحابه، دون أداء العُمرة، في ذلك العام، على أن يعودوا ليؤدوها في العام التالي، وأن تنعقد بينهما هدنة لعشر سنوات.

صحيح أن الصلح قد تم نقضه بعدها بعامين، وصحيح أن قريشا هي التي نقضته، ولكن السؤال هنا يظل عما يقصده الغنوشي، وهو يستدعي مشهدا من القرن الأول الهجري، ثم يُسقطه على القرن الخامس عشر، دون أن يقول لنا شيئا محددا، بوضوح، ودون مكر، عما يمكن أن يقوم من قواسم مشتركة بين المشهدين.

ذلك أنه إذا جاز لأصحاب الرسول الكريم، وقتها، أن يذهبوا إلى فتح مكة، فهل يجوز بالقياس، أن يفكر الغنوشي ورفاقه في فتح تونس مثلا؟!

وإذا كان الصلح بين المسلمين وقريش في العام السادس الهجري، قد أعقبه بعدها بفترة قصيرة، فتح عظيم، على حد تعبير الغنوشي وهو يتكلم، فما هو، يا ترى، نوع الفتح الذي يريده لبلده، هذه الأيام، وينتظره، ويترقبه، ويسعى إليه؟!

لم يشكك أحد إلى الآن، ولو بأدنى مقدار في نزاهة الانتخابات التي جرت، وخسرها الغنوشي، وجاء الناخبون التونسيون من خلالها، بما رأوا أنه أفضل من «النهضة» وأقدر على حكم تونس، وعلى حل مشاكلها، وقد حدث هذا، بعد أن جرَّب الناخب نفسه، رجال الحركة الإسلامية، واكتشف أنهم بالتجربة أعجز من أن يواجهوا مشكلة في حياته اليومية، فضلا عن أن يطرحوا لها حلا، ولذلك أزاحهم سلميا، وبالصندوق وحده، وجاء بغيرهم، ممنْ يتوسم فيهم خيرا.

وحين يكون الأمر كذلك، فلا نظن أن من حق الغنوشي، أن يستدير من الناحية الأخرى، ليقول هذا الكلام الذي إن دل على شيء، فإنما يدل على أنه متقبل لنتائج الانتخابات، عن اضطرار، وأنه يتطلع إلى ما جرى من انتخابات، ثم إلى حصيلتها، من زاوية أخرى تماما.. زاوية تبدو غريبة، وعجيبة، وتستدعي ما مضى، في مواجهة ما هو حاضر، وبشكل يبدو مستعصيا على الأفهام، وعلى العقول، حين تتأمله.

ليت الغنوشي، ورفاقه، يعملون بيننا في كل يوم، باتجاه إثبات أن المرونة التي لمسناها، منهم، خلال فترة مضت، وأعجبتنا، وأثنينا عليها، إنما هي مرونة حقيقية، لا ظاهرية، وأنها تنطوي على مضمون حقيقي، وليست مكرا مجردا.. ليت الرجل، ورفاقه، يعيشون بيننا، في قرننا الخامس عشر الهجري، وفي غمار كل ما يمتلئ به عصرنا، وليس في القرن الأول الذي انقضى.