الائتلاف الوطني السوري واستعادة زمام المبادرة لإنقاذ سوريا

TT

وصل الائتلاف الوطني السوري أخيرا في سياساته المعتمدة للتخلص من نظام الأسد إلى طريق مسدود، وسينتهي به الأمر، إذا ما أصر على تلك السياسات، أن يصبح شاهد زور على تضييع تضحيات شعب فاقت كل التصورات. فقد كان واضحا للعيان مدى إحباط رئيس الائتلاف هادي البحرة بعد لقائه مجموعة أصدقاء سوريا مؤخرا في لندن؛ فالبحرة صرح بأن الولايات المتحدة، بما معناه، تخلت عن أولوية إسقاط الأسد، وعمدت إلى محاربة «داعش». كما شكا أكثر من أصدقاء الشعب السوري، لأنهم يدعمون أطرافا مسلحة على الأرض مباشرة وليس من خلال الائتلاف، مما يحرم الأخير من ورقة الفاعلية سواء على الأرض أو على طاولة المفاوضات.

يقول المثل: القائد العسكري الفذ هو الذي ينسحب من المعركة قبل أن يخسر كل شيء، وبالقياس على ذلك يتوجب على السياسي أن يغير استراتيجيته إذا ما استشعر أنها ستجره إلى الخسارة؛ في هذه النقطة بالذات اختار الائتلاف منذ ولادته سياسة واحدة لا غير، وهي التعلق بالسياسة الأميركية والغربية، وكذلك إطلاق أنات التوجع من تلك السياسات، وكأنه بهذا التوجع قد أعفى نفسه من المسؤولية. إن الائتلاف شاهد بالمعاينة والتجربة عقم تلك السياسات المعتمدة، واختبر مدى تداعياتها السلبية، ولا يزال مصرا على أن الولايات المتحدة هي حليفته، وأن الدول الغربية والصديقة ستساعده على إسقاط النظام السوري! هذا الاعتقاد قد يكون مصدره قناعة الائتلاف بأن لا خيار لديه، وأنه إذا ما خرج من عباءة الدول الصديقة، فإنه سيخسر الدعم الدولي والإقليمي اللذين من دونهما لا يمكن للثورة أن تنتصر. هنا بالذات تكمن مشكلة الائتلاف.

في الحرب العالمية الثانية كان الزعيم البريطاني تشرشل يهزأ من الجنرال ديغول ويصفه بالجنرال الصغير، لكن هذا الجنرال بإيمانه، وببراعته السياسية، وتواصله مع الثوار وشعبه، تمكن من دخول باريس دخول الفاتحين؛ وكذلك في تلك الحرب خسرت المعارضة البولندية بلدها، لأنها فضلت أن تضع كل أوراقها بيد اللاعب البريطاني! بعبارة أخرى، الثورة لا تنتصر بالشكوى، بل بالتضحية، وليس بالانقطاع، بل بالتواصل مع القاعدة الشعبية، وإلا ستكون النتيجة بروز قيادات جديدة، وقوى متنوعة، وتدخل دول دولية وإقليمية بأجندات مختلفة. وبالفعل، برزت الآن قيادات وتنظيمات متعددة في سوريا، وذهبت تلك الأيام التي كانت تخرج بها الجموع لتؤيد المجلس الوطني السوري، والمعارضة في الخارج تحت شعار «المجلس الوطني يمثلني». ولهذا يتوجب على الائتلاف أن يعيد وصل ما انقطع ويستمع لمطالب شعبه.

على الائتلاف في هذه المرحلة أن يعيد النظر في سياسته مع شعبه، بمعنى أن يكون ممثلا حقيقيا له، وهذا لا يتحقق بعملية إجرائية انتخابية وتجاذبات دولية وإقليمية، بل برجوعه إلى الأرض السورية، وتواصله مع قطاعات شعبه، وعيشه معاناته. هذه الرجعة من شأنها أن تساعد الائتلاف على فهم الواقع على الأرض بالمعاينة والتجربة وليس بالوكالة؛ كما أنه من الضروري ألا يكون تواصل الائتلاف مع القوى المسلحة على الأرض، محكوما بعقدة الخوف من الخارج، وألا يرتهن بتوصيفه لتلك القوى بمطالب خارجية، بل عليه أن يلتزم بما تتطلبه الوحدة، وقناعات الناس، وضمن سياق يلتقي على هدف واحد هو إسقاط النظام.

لكي يكتب لهذا التحرك سبل النجاح لا بد للائتلاف بعد تجربته المرة أن يرفض سياسة الولايات المتحدة الراهنة تجاه سوريا، ويشدد على أولوية إسقاط النظام؛ هذا الرفض من شأنه أن يفك ارتباط القرار السوري بالقرار الأميركي، ويعيد الحيوية للحراك الداخلي، وسيساهم حتما في عملية توحيد القرار الداخلي. والمقصود بفك الارتباط ليس معاداة أميركا، بل على العكس إقناعها بأن سياستها الراهنة ستؤدي إلى خسارتها الشعب السوري، وأن الاستمرار عليها سيدفع بالشعب السوري إلى البحث عن بديل يؤمن بثورة الشعب السوري؛ فأميركا في نهاية المطاف لم تقدم لهذه الثورة شيئا، وبالتالي ليس لدى قادتها ما يخسرونه. هذا المسار الاستقلالي يجب أن يلازمه رفض سياسة الوسيط الدولي دي ميستورا، لأنها تقوم على فرضية تأهيل النظام من خلال تسويات محلية تجعل النظام طرفا مقبولا، وتحول مسار الثورة إلى سياقات أخرى مثل محاربة الإرهاب. فهذا الوسيط الدولي، كما سرب أحد قادة الائتلاف، محابٍ للنظام، ولا يأخذ الائتلاف على محمل الجد، والدليل أنه استبعد الائتلاف وتواصل مع قوى مسلحة على الأرض السورية.

إن تجربة الائتلاف الإقليمية والتجاذبات التي خضع لها تحتم عليه مراجعة سياسته والاستفادة من تعدد اللاعبين الإقليميين الذي له جوانب سلبية، لكن كذلك له أوجه إيجابية تسمح للائتلاف بأن يناور ويتحرك واللعب على التناقضات في سبيل تحييد القرار السوري وجعله قرارا وطنيا. إن أسوأ ما يرتكبه الائتلاف هو المراهنة على فريق واحد أو الدخول في لعبة التجاذبات الإقليمية، ومن الضروري أن يبدأ الائتلاف بالتخفيف من اعتماده على الدعم الخارجي، وإيجاد بديل مالي داخلي قدر ما أمكن لتخليص الثورة من التبعية، ولا يستدعي ذلك رفض الاستفادة من دعم الأصدقاء، طالما أنها لا تأتي في سياق أوامر ومطالب.

ولكي يتمكن الائتلاف من تحقيق ذلك، لا بد له أن يوائم تحركاته هذه بالعمل الجدي لنزع فتيل الاحتقان الطائفي، واتباع سياسة مرنة ومعقولة في الداخل السوري تبدأ بإنشاء شبكات من الترابط والتواصل الاجتماعي بين القرى والطوائف لتسوية نزاعات وتهدئة مخاوف؛ هذه السياسة ضرورية لأنها ستكون القاعدة الأساسية لبناء سوريا المستقبل.

هذه السياسة المرنة تتطلب من الائتلاف الاعتراف بأن مكونات الشعب السوري متعددة، لكن الإسلام يمثل الإطار الجامع لها، وبدلا من إخضاع الأكثرية لمطالب الأقلية عليه، وفق المنطق الديمقراطي المعقول، أن يقنع الأقلية بقبول هذا الإطار، وأن يوفر لها الأسس التي تضمن سلامتها ومشاركتها في الحياة السياسة والاجتماعية وفق مفهوم المواطنة الحق. بالطبع، توجد جماعات لا تقبل بتلك الأفكار، لكن تحول الائتلاف إلى قبول الإطار الإسلامي سيحرم تلك الجماعات من ورقة التخويف، ويفتح المجال أمام إيجاد أرضية مشتركة لقيام وطن يتفاهم الجميع على حكمة وفق الإطار الحضاري الإسلامي. هذا الوطن لا يمكن على الإطلاق المحافظة عليه من خلال إسقاط النظام، بمعنى حل كل مؤسساته وكياناته، بل من خلال إزاحة القيادة واستبدالها بقيادة جديدة ترمم تلك المؤسسات، وتحركها باتجاه مستقبل واعد.

إن الائتلاف الوطني، وقبله المجلس الوطني، قد جربا سياسة الانضواء في الركب الأميركي والغربي، والإقليمي، ولم يحققا شيئا، ولا سيما أن الوضع الحالي أصبح أكثر تعقيدا، وأكثر وضوحا بخصوص نيات الحليف الأميركي. فالولايات المتحدة لا ترى في الأزمة السورية سوى خطر التطرف، وهي تنحو في خضم تحالفاتها الدولية، ومخاوفها الإقليمية، وهوسها بالخطر الإسلامي، إلى سياسة ترميم النظام بطريقة تحرم الشعب السوري من مطالب دفع ويدفع أثمانا باهظة في سبيلها. لكن التغير في مسار الائتلاف سيجبر أميركا حتما، كما في التجربة الإيرانية، على إعادة النظر بسياستها، لأنها ستعرف في النهاية أن مصالحها مع الشعب وليس مع النظام.

لم يفت بعد الأوان، وبوسع الائتلاف العودة بقوة، لكن ذلك يتطلب جرأة بالاعتراف بالفشل، وشجاعة أخلاقية عالية، والبدء بسياسة جديدة تؤدي إلى وحدة القرار السياسي الذي من شأنه أن يحرم الأطراف الدولية والإقليمية وحتى أصحاب الأهواء الشخصية السورية من الاستفادة من دماء الشعب السوري.