مشوار الألف ميل للعقل المصري

TT

في ندوة للمصريين في بريطانيا، قبل أسبوع، كان الحضور بمستوى مهني وتعليمي عالٍ (أطباء، محامون، أكاديميون واقتصاديون) لإطلاق فرع أوروبا من حزب مصري ليبرالي (له تمثيل برلماني في مجلس الشعب الأخير)، قوامه اقتصاديون ورجال أعمال.

الليبرالية يفسرها معظم المصريين - وكثير من العرب - بأنها تيار سياسي مناهض للفاشية الدينية التي يمثلها «الإخوان» ومن على شاكلتهم. لكنهم تجاهلوا جوهر الليبرالية كحراك اقتصادي أساسه حرية السوق والملكية الفردية وحرية الخيارات الاقتصادية.

هذا التناقض بين المعنى الجوهري والتفسير السياسي يكمن فيما وصفته أقلية واعية من المفكرين المصريين بخلل «السوفتوير» أو برامج تشغيل العقل الجماعي المصري.

بين حضور الندوة أقلية من جيلي (العواجيز) وأقلية جامعيون في العشرينات، فكان متوسط أعمار المشاركين في منتصف أو نهاية الأربعينات من العمر، أي تشكل تفكيرهم التحليلي (دون العاشرة) في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، في مدارس وزارة التربية والتعليم التي هدمت معاولها صروح وزارة المعارف العمومية التي تأسست كمنار حضاري بجهود رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك والدكتور طه حسين.

ثمار نضج جيل نهضة مصر، كتوفيق الحكيم والدكتور حسين فوزي ونجيب محفوظ ومحمود أمين العالم وعبد الرحمن بدوي، أطلقت اسم «التعمية والتجهيل» تهكما على الوزارة التي ورثها الصاغ كمال الدين حسين (عام 1958)، فحوّلها من واحة للمعرفة تعم ثمارها أفريقيا والبلدان العربية إلى كارثة تاريخية نرى آثارها المدمرة في كل نواحي الحياة في مصر اليوم.

باستثناء تطلعات تراها في كراسة تلميذ مدرسة ابتدائية، لم تقدم ندوة لندن، من المنصة أو المشاركين، برنامجا سياسيا أو اقتصاديا عن رؤيتهم لخمس سنين أو حتى خمسة أشهر مقبلة. لا أرقام أو ميزانيات عن إصلاح التعليم أو خطة لجذب المستثمرين، ولم أسمع مصطلحات اقتصادية ناضجة.

هل برنامجهم حرية السوق والاقتصاد الحر (شرط أساسي لأي نظام ديمقراطي حقيقي) أم اشتراكية سوفياتية بالعودة لأيام ونظام الرئيس عبد الناصر؟

أو نظام ما بين الاثنين، كبريطانيا في عهود الحكومات العمالية؟

بعض الحضور (من أثرياء الأطباء ومليونيرات) ألقى خطبا عصماء عن ضرورة العودة لاشتراكية عبد الناصر، والتحذير من أن كل مشاكل مصر هي مخطط ومؤامرة إسرائيلية تهدف إلى إلحاق الأذى بمصر، وتفكيك البلدان العربية (ولم يتبرع أي من السادة دعاة الاشتراكية ولو بخمسة جنيهات للندوة، أو كنواة لصندوق لدعم فقراء مصر الذين أفتوا باستحالة إنصافهم إلا بالعودة لأيام الحزب الاشتراكي الأوحد في عهد الزعيم الخالد).

القضايا التي طرحت للنقاش أظهرت فجوات هائلة في التفكير وفي مفهوم القانون والديمقراطية والتمثيل النيابي من جانب مثقفين عاشوا سنوات طويلة في الديمقراطيات الغربية وتحت حكم القانون، الذي يتساوى أمامه الجميع.

شبه إجماع على مطلب بضرورة تمثيل سبعة ملايين من المصريين في الخارج (لم يخبرنا أحد كيف توصلوا للرقم) في البرلمان المصري المقبل.

لم يجب أحد عن سؤال كيف من الناحية الفقهية الدستورية يحق لمن لا يدفع ضرائب في مصر تمثيل نيابي في برلمانها؟

وكيف سيتم تحديد الدوائر الانتخابية «للمغتربين»؟

وإذ اختصرناها حسب كثافة المصريين - إذا وافقوا على دفع ضرائب للخزانة المصرية بجانب ضرائب بلدان إقامتهم - لتقتصر على 24 بلدا (دول الخليج، وأوروبا أميركا وأستراليا واليابان) هل يكون لهم 24 مقعدا في برلمان مصر؟

أم مقاعد إقليمية بعدد القارات من سبع دوائر؟

من هم النواب؟

وأين مكتب الدائرة؟

وكيف ومتى يلتقي النائب بناخبيه؟

وكيف يوفق بين ذلك وحضور الجلسات؟

ومن سيمول ميزانية تنقل النواب بين القاهرة والدوائر؟

الميزانية البرلمانية أم جهة أخرى قد تؤثر على استقلالية النائب؟

مطلب لا يمكن تطبيقه إلا في شكل رمزي يعد إهانة للديمقراطية ولعقل الإنسان المصري.

الأهمية التي منحها الحضور للمطلب الوهمي بتمثيل المصريين في الخارج، تشير ضمنيا إلى التركيز، افتراضا، على ضرورة أن يكون نظام الحكم برلمانيا كبريطانيا ودول الكومنولث ومصر قبل عام 1952. ورغم ذلك، فإن كل المناشدات ومطالب الإصلاح تقبل ضمنيا أن النظام رئاسي جمهوري، مما يناقض موضوع الندوة عن حزب ليبرالي، لأن التعددية الحزبية تعني الديمقراطية البرلمانية.

الملاحظ أيضا عدم إثارة مسألة تعديل النظام الانتخابي والدستور للعودة للنظام البرلماني، حيث يمكن للشعب (أي الناخبين) محاسبة الحكومة على أدائها أو تقصيرها، فهذه الآلية لا وجود لها في الأنظمة الجمهورية الرئاسية (حيث يكلف الرئيس شخصا غير منتخب بتأليف حكومة). وفي النظام البرلماني يختار الناخب إما إعادة انتخاب الحكومة أو حكومة الظل (حزب المعارضة) التي يعرف الناخب برنامجها الذي تنشره علنا وتناقشه في البرلمان دوريا.

نواب النظام البرلماني يستجوبون الحكومة ورئيسها يوميا باسم الشعب (نائب الدائرة يلتقي ناخبيه أسبوعيا ويعرف مطالبهم وأسئلتهم). المفارقة أن غالبية المشاركين يعيشون في بريطانيا ويدركون هذا، لكن يبدو أن تجمع مصريين أطلق العنان للذهنية الجماعية في فقاعة عزلتهم عن الواقع، ونقلتهم زمانا ومكانا إلى الوطن، وتشغيل «سوفتوير» الذهنية الجماعية فيه.

ومع انخفاض مستوى المعيشة للغالبية الساحقة من الشعب المصري، فإن المشاركين في الندوة، وكلهم بلا استثناء من الطبقة المتوسطة ذات الحظ الأوفر في التعليم واقتصاديا، يصرون على حلول «اشتراكية» أثبت التاريخ أنها تزرع بذور المشاكل أصلا، ولا يمكن أن تكون حلولا.

يرفضون استثمارات الأجانب (غير المصريين حتى لو أقاموا 10 بوصات خارج الحدود) أو يحصل المستثمر المصري على الأرض بأجر رخيص أو بإعفاءات ضريبية.

موقف مناقض ليافطة الليبرالية التي رفعتها الندوة.

واقعيا تصبح الدولة المستثمر الوحيد ومن توفر الوظائف.

مصدر دخل الدولة هو الضرائب، و«الحلول» الاشتراكية وتطفيش رأس المال الأجنبي تعني محدودية دخل الدولة.

فهل تنفق الدخل على الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم والمرافق والبنية التحتية، أم في استثمارات لتوظيف 300 ألف وافد جديد على سوق العمالة سنويا؟

وليس من المستحب النقد دون تقديم حلول، لكن واقعيا لا يوجد بالفعل حل في إطار الممكن، والنخبة المصرية التي تمتعت بالتعليم والثقافة الغربية تفكر بهذا (اللا) منهج.

وبدلا من «هوجة» التمثيل الوهمي للمغتربين في البرلمان، هل يركز المصريون في الخارج جهودهم على جمع بضعة مليارات لتأسيس نظام تعليم جديد موازٍ (سوفتوير جديد للعقل الجماعي المصري) مثلما جمع جيل أحمد لطفي السيد التبرعات لإنشاء الجامعة الأهلية 1901. وربما تبدأ ظهور أولى النتائج بعد 30 عاما؟

مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، كما يقول الصينيون.