هدية وديع لسلمى

TT

50 صندوقا من الكتب القديمة سافرت من القاهرة إلى بيروت لتستقر بين أيدٍ أمينة وفي عائلة تعتبر الكتاب خبزها وكفاف يومها. إنها مكتبة الأديب وديع فلسطين، جمعها على امتداد 80 عاما، ثم آثر، وقد تجاوز الـ90، أن يهديها إلى تلميذته السابقة وصديقة العمر السيدة سلمى سليم.

يتصور الكثيرون، حتى في مصر، أن وديع فلسطين كاتب فلسطيني. وقد نشرت صافيناز كاظم، الكاتبة الإسلامية، مقالا عبرت فيه عن سعادتها عندما عرفت أنه من أقباط مصر، ومن مواليد إخميم في الصعيد الجواني. وهو لم يذهب إلى فلسطين رغم أنه يحمل اسمها. عاش سنوات طفولته الأولى في السودان، مقر عمل والده، ثم نشأ في القاهرة، وكان من أوائل خريجي قسم الصحافة في جامعتها الأميركية ثم مدرسا فيها. وهو أقدم عضو مصري في مجمعي اللغة العربية في دمشق وعمّان. عمل في «الأهرام» و«المقطم» و«المقتطف»، نال جائزة فاروق الأول في الصحافة الشرقية وكان محررا شاملا، يكتب الخبر والتقرير والمقال الاقتصادي، وينقد كتب الأدب، ويترجم ويصدر كتب التراجم مؤرخا نابها للحياة الأدبية العربية. وطبعا، فإن الصحافي لم يكنز مالا، بل جمع ثروة من الصداقات الأدبية والمراسلات مع عشرات الكتّاب والشعراء والمفكرين العرب. وكان من عادته أن ينزل صباح كل ثلاثاء إلى مكتب «البوسطة» ليضع مغلفاته في الصندوق ويتسلم بريده السمين. ومحظوظ هو ذاك، أو تلك، الذي يتلقى رسالة من وديع فلسطين لأنها ستعود به إلى متعة التخاطب الرفيع وبلاغة الأربعينات ولياقة الباشاوات.

تعرفت السيدة سلمى على وديع فلسطين سنة 1948، عندما كانت تحمل اسم عائلتها، مرشاق، قبل الزواج. عائلة من شوام مصر، تلك الكوكبة من المهاجرين السوريين الذين حملوا في حقائبهم خبرات ومهارات تفتحت على ضفاف النيل. وقد كان من عادة العائلة أن تقضي موسم الصيف في لبنان. يأخذ أفرادها القطار من محطة باب الحديد فيتحرك بهم في السادسة مساء ليصل إلى حيفا في الصباح التالي. ومن حيفا يسافرون بسيارات «العلمين» إلى بيروت. لكن الحرب في فلسطين ألغت رحلة القطار في ذلك الصيف. وكانت مناسبة لأن تركب سلمى الطائرة، للمرة الأولى في حياتها، من مطار «ألماظة» في القاهرة إلى مطار بيروت الصغير الذي كان في منطقة بئر حسن.

تصطاف عائلة مرشاق في بيت مري، وهناك تتعرف والدة سلمى على سيدة فلسطينية وتوجه لها الدعوة لأن تزورهم في القاهرة وتقضي بعض الوقت في بيتهم بحي الفجالة. وبفضل تلك الضيفة سمعت سلمى مرشاق بوديع فلسطين والتقته عندما زارهم في اليوم المحدد من كل شهر لاستقبال الضيوف. كان شابا يكتب في «المقطم» وقد نصحها بقراءة روايات كاتب جديد اسمه نجيب محفوظ. أما هي فكانت تعرف المنفلوطي، الرجل ذا الجلباب الذي كان يزور عم والدتها في مقهاه في الفجالة فيترجم له العم، بالدارجة المصرية، روايات فرنسية يعيد المنفلوطي صياغتها بالعربية الفصحى وبأسلوب عاطفي يقطع نياط القلوب.

كان عام 1948 علامة فارقة في حياة سلمى، فهو ليس عام النكبة فحسب، بل السنة التي ركبت فيها الطائرة ورأت وديع فلسطين. ولما دخلت الجامعة الأميركية في القاهرة، عام 1953، لتتخصص في البحث عن المتاعب، كان وديع أستاذها في درس التحرير الصحافي. وبعد التخرج، عملت محررة مساعدة لمراسل «نيوزويك» في الشرق الأوسط. وبتلك الصفة سافرت إلى بيروت، حيث تعرفت على المحامي اللبناني محسن سليم. تزوجا وبقيت هناك. إنها تمضي الساعات، كل يوم، في منزلها القديم في حارة حريك، تنفض غبار 7 عقود عن الهدية الثمينة التي استودعها إياها وديع فلسطين. تسجل القوائم بأسماء الدوريات النادرة والكتب التي تحمل إهداءات أصحابها، وتصنفها بحسب موضوعاتها، وترتب آلاف الرسائل المكتوبة بخطوط نجوم الأدب. آثار انطفأ جلّ كاتبيها. وبين أكداس الرسائل في الصناديق، تعثر على واحدة كانت قد بعثت بها لأستاذها يوم تركت مصر إلى بيروت، عام 1956. تنادي على حفيدتها لتقرأ الرسالة فتستغرق الصبيّة في الضحك. إنها من جيل يقرأ رسائله على الهاتف ولا يعرف عتبات مكاتب البريد.