في عشق الأبيض والأسود!!

TT

ما الذي يدفعنا لعشق كل ما هو قديم ونتسامح حتى مع عيوبه أو ربما نعتبرها حسنات تزيده جمالا. في العالم كله تعيش الشعوب دائما حالة من «النوستالجيا». إنه الحنين للماضي، وأصل الكلمة يوناني كانت تعني في البداية الألم للمريض للابتعاد عن البيت وخوفه من ألا يعود، ثم أصبحت مع الزمن تحمل اعتزازا بالماضي ممزوجا بشيء من البهجة وخفتت تماما حدة تلك الآلام والكآبة.

تختلف درجة عشق القديم من مجتمع إلى آخر ومن حقبة إلى أخرى، إلا أننا في عالمنا العربي صار لدينا خاصة فيما يتعلق بالأدب والفن، ما نُطلق عليه الزمن الجميل، وهو توصيف مخادع جدا بل ويصل إلى حدود الكذب. إننا في العادة نحكم ليس على كُل القديم، ولكن على ما أبقته الأيام منتصرا على عوامل الفناء، من يقاوم النسيان هو الأجمل بالضرورة، ولكن لا يعني ذلك أن الإبداع كله كان جميلا وأرجو ألا يعتقد البعض مثلا أن الفنان مهما بلغت مكانته لا يتورط خلال مشواره في تقديم أعمال متواضعة، أم كلثوم سيدة الغناء العربي فعلتها في أغنية أو اثنتين، الحقيقة الموثقة هي أن شاعرها الأثير أحمد رامي كتب لها في قالب غنائي وهو «الطقطوقة»، كلمات «اللطافة والخفافة مذهبي» على نفس إيقاع ووزن وموسيقى كلمات أخرى تقول فيها «الخلاعة والدلاعة مذهبي»، ولم تكن أم كلثوم مدركة ربما بسبب صغر عمرها وقتها رداءة مستوى الكلمات، بينما رامي كان حريصا على نقاء ثوبها الغنائي.

الماضي أو العودة إليه لهما في الحقيقة تنويعات كثيرة منها بالطبع تلك الفرق الغنائية التراثية المنتشرة في العالم كله، وفي دُنيا المسرح نجد «الريبورتوار»، هناك دائما بجوار ذلك تنويعة أخرى نُطلق عليها «نوستالجيا» لونية، وهو الحنين للأبيض والأسود، أتحدث عن تلك الأفلام التي نراها تغزو العالم كله وتشكل الآن قسطا لا بأس به، لقد انخفضت نسبة أفلام الأبيض والأسود منذ سبعينات القرن الماضي إلى أقل من 3 في المائة، بل إن عددا من أفلام الأبيض والأسود القديمة وعن طريق معالجة كيمائية تم تلوينها.

السينما بطبعها ترنو إلى آخر صيحة في التقنيات وهكذا بدأ الاتجاه إلى أفلام الأبعاد الثلاثية في ازدياد، كما أن استخدام الشاشة الثرية بالحركة واللون والإبهار والصوت الدوللبي سيطر على الموقف، إلا أنه وعلى الجانب الآخر رأينا نوعا من المقاومة اللاشعورية. هناك إحساس داخلي يرنو بين الحين والآخر للعودة للماضي. عدد من الأفلام التي شاهدتها مؤخرا في مهرجاني «أبوظبي» ثم «القاهرة» تعيدنا لزمن الأبيض والأسود، ولاحظت مؤخرا السينما المصرية وهي تسترد زمنها القديم في فيلم «زي عود كبريت» للمخرج حسين الأمام، وهو تعبير ارتبط بيوسف بك وهبي عميد المسرح العربي، مدللا على شرف المرأة، كان الفيلم رغم عدد من الملاحظات السلبية عليه، يحمل تقديرا خاصا بفاتن حمامة وهو ما تكرر في فيلم المخرج الشاب أحمد عبد الله «ديكور» وأيضا كانت فاتن حمامة هي العنوان حيث تمت الاستعانة بالكثير من لقطات أفلامها القديمة.

الماضي يتيح لك مرة أن تقفز فوق السور لتطل على الحاضر، وتستطيع على الجانب الآخر أن تُطل من الحاضر على الماضي، نعم الحياة ملونة ومجسمة بالأبعاد الثلاثية طولا وعرضا وعمقا، وهكذا توافق معها الشريط السينمائي، ولكن من قال: إن تلك الأفلام تخلو من التباين اللوني، في أحيان كثيرة يضيف عشاق القديم بعيونهم ومشاعرهم ألوانا وأعماقا وأبعادا للأبيض والأسود بدرجاته المتعددة.