اللهم إنه قد نبه.. ويعاود التنبيه

TT

قبل 5 سنوات وتحديدا يوم الخميس الأول من أبريل (نيسان) 2009 كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يشارك في القرار المالي والاقتصادي العالمي، في قمة استضافتها العاصمة البريطانية، وكان هاجس الأزمات التي يعيشها الاقتصاد العالمي حاضرا على الطاولة التي جمعت القادة العشرين.

كان العالم العربي في شخص الملك عبد الله ممثّلا في هذه القمة وكانت الاهتمامات به لافتة من جانب القادة المشاركين وبالذات أولئك الذين يعيشون أزمة اهتزازات أصابت الدولار والإسترليني واليورو. ولقد بات مألوفا أن مردود أي اهتزاز يصيب العملة يكون التخوف من حدوث انهيار اقتصادي وهو خوف تعيشه الدول الصناعية الكبرى وبدأ التنبيه من عواقبه في صيغة تصريحات يدلي بها قادة فاعلون في الاقتصاد العالمي أمثال مستشارة ألمانيا أنجيلا ميركل ورئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون.

خلال هذه السنوات الـ5 تبدلت قليلا بعض الوجوه. وعلى سبيل المثال انصرف غوردن براون رئيس وزراء بريطانيا وحل محله ديفيد كاميرون. وانصرف نيكولا ساركوزي وحل محله فرنسوا هولاند رئيسا لفرنسا. واستعاد فلاديمير بوتين من ديمتري ميدفيديف رئاسة الكرملين. لكن هذا التبدل في الوجوه لم يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية التي أورثتها قمة لندن إلى ما تلاها. وبدلا من أن تصطلح الأمور بعض الشيء اقتحمت أجواء الفوضى وظاهرة الإرهاب الناشئة عن الأزمة السورية ملف الهموم والاهتمامات فباتت المخاوف على نحو ما بدا جليا في أجواء قمة العشرين المستضافة في أستراليا تحمل في طياتها مخاوف من زلازل اقتصادية وخصوصا في حال بقيت احتمالات الفوضى والأزمات العالقة على حالها وهذه كان من الممكن اختصار تداعياتها لو أن أصحاب الشكوى الذين يخشون تلك التداعيات وما ستسببه لقيمة عملاتهم واهتزازات أسواقهم المالية، أخذوا برؤية الملك عبد الله في شأن استقرار وازدهار يشمل الجميع ولا يقتصر على دولة دون أخرى. وهذه الرؤية أوجزها في صيغة أفكار وكان حريصا على أن تُنشر باللغة الإنجليزية (نشرتها مجلة «فيرست» المتخصصة في عالم أهل القرار على أنواعه) وقبل أيام من انعقاد قمة لندن كي لا يتذرع المتذرعون بأنهم لم يطّلعوا عليها وينتظرون تلخيصا باللغة التي يتقنونها، عسى ولعل يصار إلى موقف يجسد هذه الرؤية التي تتلخص في «إن المنطقة العربية ليست في منأى عن الأزمة المالية وتبعاتها، بيد أنه دون سلام شامل وعادل في المنطقة فإنه لا معنى للكلام عن استقرار المنطقة ونموها الاقتصادي ولن يتم تحقيق التنمية كذلك. وللوصول إلى السلام، ذلك الهدف السامي، قدّمت الدول العربية مبادرة شاملة متوازنة هي مبادرة السلام العربية منذ عام 2002. وقد أضاع رفض إسرائيل للمبادرة فرصة كبرى لتحقيق سلام شامل وعادل في المنطقة. كما أننا نحث المجتمع الدولي على الاضطلاع بمسؤولياته إزاء تحقيق السلام الشامل والعادل الذي طال انتظاره والاستفادة من المبادرة المقترحة، التي لن تظل مطروحة على الطاولة إلى الأبد... ».

زمنذاك كانت مضت على المبادرة 3 سنوات. ولأن إسرائيل المعتدية دائما والمجتمع الدولي الساكت أحيانا عن العدوان والمبرّر أحيانا أخرى، لم يرحبا بالمبادرة بصيغة التنفيذ لها، فإن الاهتزازات المالية تواصلت وتراكمت المخاطر تبعا لذلك، ثم جاءت الأزمة السورية وإفرازاتها التي أكثرها خطرا ظاهرة «داعش» بدليل أنها استقطبت أجانب مستعدين للذبح ومن دون أن يرف للواحد منهم جفن. وها هي أحوال الاقتصاد العالمي عرضة للنكسات التي ربما تصل لدى البعض إلى انهيارات. ومن المؤكد أنه لو تم إدراج مبادرة السلام العربية في «أجندة» أولويات اهتمامات الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية عند الإعلان عنها ما كان ليحدث الذي نعيشه في المنطقة ويسبب القلق الشبيه بالقلق الناشئ عن «القاعدة» وإنذاراتها والنظريات النجادية وتهديداتها.

قبل 5 سنوات وفي الوقت الذي كان فيه الملك عبد الله بن عبد العزيز هو الثالث بين 10 حكام دوليين جلوسا و10 حكام وقوفا عند التقاط الصورة التذكارية لقمة العشرين في لندن، كان لسان حاله في الرؤية التي أوضحها وأشرنا إليها كمن يقول: اللهم إني قد نبّهت.. اللهم فاشهد. التنبيه من مخاطر عدم مداواة الجرح النازف، وجاءت المبادرة أفضل دواء تنطلق في تنفيذها سفينة السلام والاستقرار فالازدهار. لكن الجرح النازف بقي ببقاء إسرائيل تحتل وتعتدي ثم ها هي عواصف جحيم العنف تلفح وجوه الذين لا يحسمون. فهذه روسيا بوتين تستعمل «الفيتو» ضد قرار من شأنه إعادة 10 ملايين مهجّر أو مهاجر أو نازح إلى بيوتهم ومتاجرهم وأسواقهم ومستشفياتهم ومدارسهم رغم الدمار الذي لحق بمعظمها. وهذه الصين لا تخجل من استعمالها هي الأخرى لهذا «الحق الملعون» لأنه حتى الآن سلاح ضد كل قضية إنسانية. وهذا أوباما أميركا وعلى خطى أسلافه يهدي إسرائيل المعتدية «فيتو» بعد آخر عندما تكون هنالك شكوى ضد جرائمها مقترفا بهذا الإثم ما يقترفه الروسي والصيني وإن اختلفت الدواعي.

ولأنه على حق في رؤيته فإن الملك عبد الله سيظل مبقيا المبادرة على الطاولة وإن كان نبّه إلى احتمال وضعها في الأدراج كوسيلة ضغط على الكبار الذين لم ينقذوا الوضع الاقتصادي المالي العالمي بعدم تجاوبهم معها. وفيما هو، وكما المعروف عن صفة التسامي على العقوق ونكران الجمائل، التي هي إحدى شمائله، من أجل سد أي ثغرة يتعرض لها الصف، يطوي بالحكمة والحنكة في قمة استضافها في قصره في الرياض يوم الأحد 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 لقادة دول مجلس التعاون الخليجي توعكا طارئا على الصف الخليجي المنعكس على جانب من الأحوال العربية، نجده في كلمته التي سمعها القادة في قمة العشرين في أستراليا يوم السبت 15 نوفمبر يلقيها نيابة عنه ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلمان بن عبد العزيز، يجدد التنبيه بالقول: «لا يمكن تحقيق النمو الاقتصادي دون تحقيق السِلْم العالمي، الأمر الذي يتطلب منا جميعا التعاون والعمل لمعالجة القضايا التي تمثّل مصدر تهديد لهذا السلْم ومِن ذلك: العمل على حل النزاع العربي - الإسرائيلي حلا عادلا وشاملا، إذ إن بقاء هذا النزاع دون حل ساهم بشكل مباشر في استمرار عدم الاستقرار في الشرق الأوسط...». وهذا اختراق - إذا جاز القول - لمسار قمة كبار العالم. كان هؤلاء ضمنا يتمنون لو تقتصر الكلمة التي ألقاها الأمير سلمان على الفقرة المتعلقة بالأزمة السورية وهي «فاقم استمرارها من معاناة الشعب السوري وساهم في ازدياد حدة الاستقطاب وانتشار العنف والإرهاب في دول المنطقة...». لكن الرؤية السعودية ترى أن منشأ كل أزمات المنطقة هي إسرائيل وستبقى هذه الأزمات تولّد كوارث ما دام عالم الكبار يشكو من لهيب العنف يلفح الوجوه ويتطور إلى نحر الرقاب وبأيدي هذا البريطاني أو ذاك الفرنسي أو ذاك الأميركي إلى جانب المسلم الذي يمارس ما يحرّمه رب العالمين، ولا يبادر الكبار أولئك إلى العلاج من خلال تنفيذ مبادرة السلام العربية التي ما تزال على الطاولة ليس تناسيا لها من جانب صاحبها وإنما للتذكير بها برسم مَن إذا تذكّروا بادروا وإذا هم بادروا تكون الذكرى نفعت.

ويبقى القول إنه لولا اختراق أجواء القمة بالتركيز على موضوع النزاع العربي - الإسرائيلي وتأثيراته لكانت القمة بدأت بشكاوى من تردّي الأوضاع الاقتصادية ومخاوف من الآتي الأعظم وقرارات لا تلمس المشكلة الحقيقية الناشئة التي بدأت قبل ست وستين سنة باغتصاب وطن وشعب وسلكت المنحى الأكثر خطورة قبل سبع وأربعين سنة باحتلال إسرائيل للحرم الثالث المسجد الأقصى ضمن احتلالها فلسطين. هذا من جهة. ومن جهة أخرى لأنها تمردت على قرار مجلس الأمن 242 الذي صاغه اللورد كارادون مندوب بريطانيا لدى الأمم المتحدة زمنذاك بعد أن وضعت حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967 أوزارها. وفي ظل هذا الرفض لتنفيذ القرار الذي جاء تصويت مجلس الأمن عليه بالإجماع اعتدت إسرائيل المرة تلو الأخرى وحظيت بالتفهم الأميركي - الأوروبي التفهم تلو الآخر. وليس لهؤلاء المتفهمين سوى التأمل بنسبة من التعقل في الرؤية العاقلة المتسمة بالحكمة والحنكة التي سمعوها قبل 5 سنوات من الملك عبد الله بن عبد العزيز في قمة العشرين في لندن وكرر ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز إسماعها لهم في قمة العشرين في أستراليا. وهكذا لا تبرير لعدم التجاوب الدولي بعد الآن.. وقبل قمة العشرين في دورتها الآتية.