خيانة سعيد عقل

TT

ليس المطلوب، أن نغفر لسعيد عقل سقطاته الكبرى، لمجرد أنه انتقل إلى العالم الآخر، لكن من الإجحاف الكبير أيضا، أن ننبذه، ونصغّره ونحقّره، ونقدّمه على أنه مجرد خائن وضيع، كما يحلو للبعض أن يفعل، متناسيا قرنا كاملا، كان خلاله الرجل متقلبا في المواقف، حد التساؤل عن جدية مواقفه السياسية، التي ذهبت من القومية العربية الخالصة، إلى أقصى اليمين المتطرف والمتصهين، ليعود بعدها مؤيدا للمقاومة ضد إسرائيل.

الأحادية الفكرية العربية، والتشدد في الرؤية، والتخلي عن سعة الأفق، لن تحصد سوى الخسارات المريعة. هل نستغنى عن نجيب محفوظ لتأييده كامب ديفيد؟ ونبغض صباح لأنها غنت مع هنريكو ماسيس الصهيوني، ووصفته بأنه رائع، وتمنت لو أنها أعادتها تكرارا، لكنها خشيت ردود الفعل العنيفة ضدها التي لم تفهمها حتى قبيل وفاتها؟ هل ننقضّ على قبر أنسي الحاج لأنه لم يدن النظام السوري على وحشيته؟ ونقتل أدونيس حيا لأنه لم يفعل الأمر نفسه؟ وماذا سنقول عن فيروز وزياد الرحباني؟ كيف نتعامل مع كل الذين وسمهم صدام حسين والقذافي بالأوسمة والجوائز؟ من سيبقى للعرب، إن هم قسّموا أدباءهم، وعباقرتهم بين خونة متعاملين ووطنيين أخيار، واختلفوا حولهم، ومزقوهم إربا، كما فتتوا أوطانهم؟

إسرائيل هي المحك بالطبع. هي العدو الذي لا خلاف حوله. وسعيد عقل ذهب إلى حيث كان يجب أن يحذر ويتنبه، لكن الفكرة اللبنانية أعمته وساقته إلى أماكن بعيدة وشائكة. لا يضير التذكير بالسقطات الشنيعة، وبالبشاعة في تأييد عقل لمرتكبي مجازر صبرا وشاتيلا، بحق مئات الأبرياء، واعتبارهم «مبدعين»، ووصفه حرب إسرائيل ضد الفلسطينيين في لبنان بأنها «تخليص للعالم من الإرهاب». هذا جانب يدان ويجب أن يبقى في الذاكرة، على أن نقول في الرجل ما يستحق حيث حلّق وأصاب، ونحاسبه حيث أخطأ. أن نبقي للشاعر قدره الأدبي مصونا، وحقه محفوظا.

لم يتخل الفرنسيون عن نصوص عشرات الكتّاب الذين تعاملوا مع النازية، دون أن يتوقفوا عن الكتابة حول تاريخهم وخياناتهم.

سعيد عقل أعلن مواقف شفهية، كان مجرد منظر. ثمة أحزاب لبنانية شاركت عسكريا، بالقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي المحتل، واعترفت بذلك جهارا دون خجل، أحزاب لها اليوم من يمثلها في المجلس النيابي والحكومة، برضى اللبنانيين وتوافقاتهم. هكذا غفرت للقتلة ذنوبهم، وطويت صفحتهم، وعادوا إلى الشاشات أبطالا، معززين، وكأنما لا مجازر ارتكبوا ولا أبرياء سفكوا.

الاستقواء على الشعراء والفنانين وحدهم، ورجمهم بعد الموت، وتبرئة ساحة الساسة أحياء وأمواتا، وتركهم يسرحون ويمرحون في تقرير مصائر الناس، هم الذين لا يجيدون كتابة خطاب أو حتى إلقائه، لا يجلب سوى المزيد من الخراب.

سأدرّس طلابي، المكبلين بألف صفد، دون تردد، أن سعيد عقل ظاهرة فريدة لن تتكرر، وأنه كان حرا ومتفلتا من كل ضابط وقيد حتى الجنون، وأنه بقدر ما جنّح وحلّق وأبدع عاد ليسجن نفسه، بسبب هوسه بفكرة لبنان، في زنزانة لم تكن تليق بشاعر بقامته ومجده.

سعيد عقل، نموذج للقامة الأدبية الشاهقة، لقدرة الإنسان على الخروج من قمقمه اللغوي والأسلوبي، ولمهارة المخيلة الفذة في كسر التقليديات الآسرة المعيقة للحلم.

حارب سعيد عقل الأمية والفقر والابتذال، وحلم كما الأطفال الأبرياء بعالم مثالي لا ضيم فيه، وبوطن صغير مسيّج، له لغته، وحرفه، وقيمه، ومثله، ودينه، وصحفه، يشرب الجمال ويأكل الفن ويطير على بساط الريح. «جمهورية سعيد عقل» التي أرادها لا كبقية الجمهوريات، خذلت تفاصيلها الصغيرة كثيرين، وأعجبت البعض. من سوء حظ سعيد عقل أنه ولد في وطن جار لكيان مغتصب اسمه «إسرائيل»، وفي بلد غارق في الحروب والتناقضات والأحلام القاتلة التي لا تقل شراسة عن تناقضاته هو، وطموحاته الأدبية، وفي بقعة من الدنيا لا ينجو فيها من الرجم حتى الأصم الأبكم.

مقاتل مغوار، سعيد عقل، قضى عمره مفتونا ببناء عالم مشغول بالكلمات، مغمس بالنبل والطهر، لكن الدماء حاصرته فكبا. كبوة الشاطر بألف، ونشدان العظمة دونه عقبات كثيرة. لعل «جمهورية الرحابنة» نجت مؤقتا، قد يكون الحكم عليها مستقبلا، مختلفا أيضا. ثمة من بدأ يعزف أنغام التخوين من الآن، من يراجع الملفات، ويفند ما في الأرشيف، ويصنف على هواه.

سيبقى لنا من سعيد عقل ماء روحه المنبثة في شعره، وفروسيته، وأنفته، وكبره، تماما كما حفظت القلوب شعر المتنبي، ولهجت به الألسن، مئات السنين، رغم ادعائه النبوة، وتكسبه وخبثه ووصوليته. الاحتلال عابر وإن طال الزمن. ستزول إسرائيل، حتما، وسعيد عقل باق.. باق.. باق شاعرا لكل العرب، بمساره الطويل، الشائق المجنون، وفكره المتمرد إلى حدود الانحراف، ورسالته الإنسانية التي أراد لها أن تتجسد في لبنانه، لكنه بالتأكيد أمل لها أن تشمل العالم أجمع.