مصر والدوران إلى الماضي

TT

صفحات فيسبوك المصريين مبتهجة بتوقيع الرئيس عبد الفتاح السيسي اتفاقيات بـ8 مليارات (بلايين) دولار مع إيطاليا معظمها في السياحة القطاع الأهم في إصلاح ميزان المدفوعات والأول في خلق الوظائف المباشرة وغير المباشرة مقابل الوحدة النقدية المستثمرة.

المصريون موفقون في انتخابهم رئيسا يعي دوره التاريخي في حماية الوطن كشخصية توافقية عليها إجماع الأمة في حماية مصر من أخطار الإرهاب. لكن يبقى الاقتصاد كهدف استراتيجي طويل المدى.

في رحلاتنا كصحافيين مرافقين لرئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون، (وقبله غوردن براون وتوني بلير وجون ميجور)، كانت الطائرة تمتلئ برجال الأعمال والمستثمرين، في مهرجان عرض بضاعة بريطانيا، من مقاتلات حربية إلى أجهزة طبية إلى منتجات التلفزيون والرياضة. نجاح الزيارة يقاس بقيمة الصفقات والعقود التجارية التي خرج بها رجال الأعمال ومديرو الشركات البريطانية من الرحلة.

وهناك فارق كبير بين حالتي بريطانيا ومصر. الفارق بين رئيس دولة ورئيس حكومة وفي النظامين السياسي والاقتصادي.

الشركات ورجال الأعمال البريطانيون يوقعون العقود، ومهمة الحكومة تسهيل الخدمات، ومعالجة القوانين لتقليل ما يعرقل الاستثمارات الأجنبية والصادرات بل وتوفير غطاء مالي للشركات في حالة تأخر المستورد أو عجزه عن دفع أقساط الصفقة. مصر توقع العقود كدولة مع دولة، ومعظم القوانين المصرية معرقلة والثقافة السياسية للرأي العام المصري في معظمها تعادي الاستثمارات وترى منح تسهيلات للمستثمر الأجنبي تفريطا في السيادة الوطنية.

هل توقيع العقود والصفقات من مهام رئيس الدولة؟

الرجل يعمل فوق طاقاته بمهام رئاسة الدولة ومهام حكومة وزارية.

الطبقة المتوسطة المصرية بمثقفيها يتوقعون منه ما لا يتوقعه أي شعب آخر من رئيس دولة.

وأخشى على مصر، بثقافتها السياسية والاقتصادية التقهقر في دائرة ضيقة إلى عهد المراهقة السياسية.

الإخوان وإرهابهم لم ينموا من فراغ بل من السلبيات التي جاءت من مرحلة المراهقة السياسية التي أخشى عودة مصر إليها.

عندما كبر هامش حرية الصحافة في عهد حسني مبارك (1981 - 2011) تكررت الكتابات النوستالجية عن العهد الملكي والحقبة الديمقراطية الليبرالية (1922 - 1954) التي ولدت من رحم ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول باشا ورفاقه ووفدهم. ثورة 1919 لم تكن وليدة شرارة لحظية بل فوهة تدفق تيار تراكم خبرات ونمو ثقافة سياسية في تربة نظام تعليم معرفي مستنير بدأ ببعثة رفاعة الطهطاوي إلى فرنسا قبلها بمائة عام، ضمن إصلاحات محمد علي باشا في مطلع القرن الـ19.

الهيكل السياسي كان ديمقراطيا بالفعل قبل 1952. تداول السلطة بالانتخابات البرلمانية؛ والساسة من صفوة المتعلمين في بلدان الديمقراطيات البرلمانية العريقة وكانوا بالفعل رجال دولة يجادلون وزراء الدول العظمى في باريس ولندن كالند للند.

ديمقراطية قوامها اقتصاد السوق الحر ومتانته (كانت بريطانيا مدينة لمصر) وأدار البيروقراطية والاقتصاد طبقة وسطى مرتفعة التعليم لم يكن الإسلام السياسي قد تسلل إلى أبنائها.

لم تكن ديمقراطية العهد الملكي الليبرالي الديمقراطي نموذجية لأن قصر الفترة لم يتح لها فرصة الترسب إلى القطاعات الشعبية الدنيا التي ارتفعت الأمية فيها.

التاريخ أثبت، بلا استثناء واحد، أن عيوب الديمقراطية لا يصلحها إلا المزيد من الديمقراطية.

وإذا كانت ديمقراطية بريطانيا لا تزال تتطور وتصلح بعد 800 عام فإن تجربة مصر الديمقراطية (1922 - 1954) لم يتح لها فرصة التطور وإصلاح العيوب ذاتيا وتراكم خبرتها لتدريب أجيال أخرى بسبب قفزة مغامري يوليو 1952 على السلطة.

في الخمسينات والستينات بالغت أكاذيب الصحافة الفاسدة في عيوب العهد (البائد) الديمقراطي لتبرر الاستيلاء غير الشرعي على السلطة (إلغاء التعددية الحزبية والدستور والملكية وإلغاء اسم مصر وخوض الحروب وتغيير العلم والنشيد الوطني قرارات فردية صدرت بلا مناقشة برلمانية أو تصويت برلماني أو شعبي) واختراع «الشرعية الثورية» كبديل للشرعية الدستورية القانونية.

نظام ما بعد 1952 اعتمد على أسس هيكلية لتجنب ما يهدده. دولة قمتها ديكتاتورية الفرد وإلغاء المؤسسات فتكسرت سلسلة تدريب الأجيال على الممارسات الديمقراطية. مثلا عندما أعاد أنور السادات التعددية الحزبية عام 1976 لم يكن هناك رجال دولة قادرون على قيادة الحراك السياسي، سوى رجال الأحزاب القدامى من الوفد ومصر الفتاة، والسعديين والأحرار الدستوريين (فؤاد سراج الدين، وأحمد حسين، وفتحي رضوان وغيرهم) الذين انشغلوا بإعادة الاعتبار بعد تلطيخ صحافة عهد الاتحاد الاشتراكي لسمعتهم؛ ولم يجدوا كوادر حزبية مدربة. وما بين 1978 و2010 عجزت هذه الأحزاب عن كسب ما يزيد على أصابع اليد الواحدة من مقاعد برلمانية.

امتلأ الميدان السياسي بالمنتفعين والانتهازيين (هيئة التحرير 1952 - 1956 وأصبحت الاتحاد القومي 1956 - 1959؛ فالاتحاد الاشتراكي 1960 - 1978 فالحزب الوطني الديمقراطي 1978 - 2011).

وترى المنتفعين والانتهازيين في صحافة اليوم يفسدون رأيا عاما يهدد بقيادة الأمة المصرية إلى الهاوية.

الأساس الآخر لدولة ما بعد 1952 (هدفه القضاء على قدرات الفرد ومبادراته في الاقتصاد الحر وتدجين الشعب في حالة الاعتماد معيشيا على الدولة ورئيسها) مصادرة الاقتصاد المصري وكان من أنجح اقتصادات العالم وكان قاطرة الديمقراطية الليبرالية، وتحويله إلى نظام شمولي اقتصادي.

الأساس الآخر هو إرهاب الدولة البوليسية (كرواية جورج أورويل 1984) ولتبرير وجودها وإلغاء الحريات السياسية وتكميم الصحافة بدأ اخترع أعداء خارجيين وهميين ورفعت الصحافة المؤدلجة نبرة مؤامرة الصهيونية والإمبريالية وهي المفردات الموروثة اليوم التي تمنع التقدم والإصلاح وتعرقل الاستثمار.

تخريب وزارة المعارف منذ 1958 وانهيار التعليم وإفساد العقول أدى إلى انتشار الإسلام السياسي وتبرير الإرهاب (أولا ضد الغير والآخرين والجيران والغرب، وتوسيع دائرة من يمارس الإرهاب ضدهم في العقل الجماعي حتى صار يمارس اليوم ضد 95 في المائة من المصريين). وكانت هذه الأسس التي نخرت في المجتمع المصري وتركت الثغرات التي تسلل منها الإخوان (الجماعة الوحيدة المشتغلة بالعمل السري والإرهاب والتنظيم والانضباط أثناء حقبة 1954 - 2011) للاستيلاء على السلطة.

مع غياب رجال دولة من صنف ساسة الحقبة الديمقراطية، وبقاء الاقتصاد أسير شمولية القطاع العام، والفاسدين في الصحافة والمزاج السياسي للطبقة الوسطى في الاعتماد الكامل على الدولة وما توفره من فرص عمل واقتصاد وانتظار توقيع رئيس الدولة مزيدا من العقود، بدلا من تربية أجيال إصلاح سياسي، وحكومة برلمانية تتولى المهام الوزارية الملقاة على عاتق رئيس الدولة، وإصلاح الاقتصاد نحو ليبرالية نظام السوق الحرة الذي أسسه طلعت حرب نخشى على مصر غدا.

نخشى عودا على بدء.

نخشى عودة إلى الحقبة التي أدت أسسها إلى شمولية الاقتصاد وشمولية الدولة.. والظروف التي انقض منها الإخوان على الأمة.