إلجام العوام عن علم الكلام

TT

في كل تراث غني لأمة من الأمم الحضارية نجد مدونة حافلة في مدح العلم والتعلم، وذمّ الجهل والتجهل، والأخيرة تعني الجهل عن عمد وغبطة.

العامة أو العوام أو الغوغاء أو الرعاع أو الدهماء أو الأغمار، وغير ذلك من الأوصاف، تطلق على النسبة الكبرى من المجتمع غير العالم، ويتضاعف الذم حين تقتحم هذه الأغلبية ميدان النخبة، وهو الفلسفة والعلم والسياسة والدين وشأن الحرب وشأن السلام، حينها يتحول الذم إلى صيحة نذير من خطر «وحش» العوام، الذي لا عقل له ولا بصر ولا بصيرة، كما وصف حالة الجماهير، بإبداع، المفكر الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الشهير «سيكولوجية الجماهير» وهو يرسم ملامح كائن خرافي حقيقي يتكون من آلاف الذوات المفردة (الجمهور) تنصهر في ذات واحدة، تتصرف بسلوك واحد، ودماغ فقير واحد.

مما قاله لوبون في كتابه هذا: «الجمهور عاطفي جدا، ليس عقليا بالشكل الكافي، كما يكون الفرد عادة».

قبل لوبون (ت 1931) تحدث أعلام التراث المسلم عن خطر العامة والحث على إبعادهم عن شؤون العلوم ومباحث الدين والفلسفة و«علم الكلام» والسياسة العليا.

حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت 1111م) له كتاب شهير، عنوانه معبر عن مضمونه وهو «إلجام العوام عن علم الكلام».

وجاء في شرح «نهج البلاغة» لابن أبي الحديد نقلا عن الإمام في صفة الغوغاء: «هم الذين إذا اجتمعوا ضَرُّوا، وإذا تفرقوا نفعوا. فقيل قد عرفنا مضرَّة اجتماعهم، فما منفعة افتراقهم؟ فقال يرجع أَصحاب أهل المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم».

وجاء في الموضع نفسه أيضا: «وكان يقال العامة كالبحر إذا هاج أهلك راكبه. وقال بعضهم لا تسبوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق، وينقذون الغريق، ويسدون البثوق»، والبثوق هي الخروق، وزاد بعضهم في منفعة العوام: «ويملأون الطريق».

طبعا كلمة العوام والعامة قد تعني أشياء أخرى مضمرة، فهي مثلا لدى الأدبيات الشيعية القديمة تعني المخالفين، وهي لدى التيارات الإسماعيلية تعني كل من هو خارج إطار الفهم الباطني. لكن في الاتجاه العام، واللغوي أيضا، هي تعني ما يعنيه غوستاف لوبون تقريبا. فقد جاء، مثلا، في بعض قواميس اللغة العربية:

«رَعاع/ رُعاع/ رِعاع: مفرد رعاعة ورِعاعة، سِفْلة الناس وغوغاؤهم. أي من اختلط بالرِّعاع فتعلَّم منهم أسوأ الألفاظ».

المشكلة الأساسية في السلوك العامي الجماعي هي في تحوله لطاقة عاصفة «عمياء» ومدمرة، غير مفيدة في كثير من الأحيان حتى لمن راموا الإفادة منها من محترفي السياسة، فهم، أو هو، (الجمهور) وحش أعمى وسريع التقلب.

في حاضرنا، فإن دخول العامة نقاش الأمور الحساسة أو المتخصصة، كالنقاش الشيعي - السني، والعلماني - الديني، والوطني - القومي، والاقتصاد الحر - الاشتراكي، ومثل هذا، يفسد النقاش والمناقشين، وربما، بل فعل ذلك حقا، يحول هذه الموضوعات وقود نار وشر.

ليتنا نعيد سماع نصيحة أبي حامد قبل دهر، ولو بشكل افتراضي في عالم افتراضي.

[email protected]