واقعية سعد الحريري

TT

أقل من شهر ما بين بيان الرئيس الحريري، عشية دخول الجيش اللبناني إلى مناطق الاشتباكات في مدينة طرابلس شمال لبنان، وبين لقائه التلفزيوني مع الإعلامي مارسيل غانم، عشية بدء الحوار بين تيار المستقبل و«حزب الله»، ليجدد الرئيس سعد الحريري تمسكه بثوابته الداخلية ومواقفه الخارجية.

فقد حسم زعيم قوى 14 آذار الجدل حول مستقبل علاقته السياسية بـ«حزب الله»، وما قد يصدر عن المحكمة الدولية المعنية بالتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري من اتهامات بحق عناصر تابعة للحزب، مقدما السلامة الوطنية على الأولويات الشخصية، فاصلا بين طالب العدالة وطالب الانتقام. وهذا ما سيقطع الطريق على بعض الأصوات التي تغريها التحولات الإقليمية، خصوصا نهاية نظام الأسد، لتفتح دفتر حسابات طويلا داخليا وخارجيا، من شأنه أن يطيح بلبنان، ويؤسس لحرب أهلية جديدة، وسط انقسام شيعي سني حاد، بلغ مرحلة المواجهة الدموية في بلدان عدة.

فقد قرر الحريري الذهاب إلى طاولة الحوار مع «حزب الله» دون أوهام أو شروط مسبقة، راميا الكرة في ملعب خصمه، بعد أن قرر عدم الربط بين الأوليات اللبنانية، خصوصا انتخاب رئيس للجمهورية، وبين أزمات المنطقة وسوريا بالذات، حيث أصبح «حزب الله» رهينة لهذه التعقيدات، نظرا لارتباطه بتحولاتها الإقليمية، ومستقبل بشار الأسد، والمفاوضات النووية الإيرانية، مما يعوق خطواته الإيجابية، ويمنعه من اتخاذ قرارات داخلية لا تتطابق مع أولويات طهران.

في حديثه مع مارسيل غانم، فصل الحريري بين سلاح المقاومة وسلاح سرايا المقاومة، مشددا على أولوية تحصين الاستقرار الداخلي، وحماية السلم الأهلي، مطالبا بإنهاء هذه المظاهر المسلحة ومكافحة عصابات الممنوعات والتهريب والخطف، التي باتت تحتمي داخل مربعات أمنية تابعة للحزب، ويستعصي على القوى الأمنية الرسمية الوصول إليها وضبطها، وإنهاء الاستفزازات التي تتسبب بها عناصر السرايا غير المنضبطين في أحياء العاصمة المختلطة والمشحونة مذهبيا، تاركا الحديث عن سلاح المقاومة إلى الاستراتيجية الدفاعية التي لن يُحجز لها بند على جدول أعمال الحوار بين الطرفين.

أما في بيانه الذي صدر منذ أسابيع، فقد رسم الحريري الحد الفاصل ما بين الاعتدال والعنف، فرفض فكرة العنف الموازي حتى لا يكون حجة لتبرير عنف الآخرين، مشددا على منطق الدولة ومؤسساتها، والاحتماء بها لا الاعتداء عليها، حتى لو اتهمت بعض أجهزتها بالتقصير أو الانحياز. وأعاد الحريري في بيانه التاسيسي فكرة التموضع النهائي لجمهوره، خصوصا السني في قلب الاعتدال، رغم صعوبة هذا الانحياز، في لحظة يحاول فيها خصومه بكل ما أوتوا من قوة جر الجمهور المحبط نحو التطرف، ليسهل عليهم تشويه اعتداله، ومحاصرته لصالح تطرف آخر يسهل عليهم مواجهته والانتصار عليه، ويحول هذا الانتصار إلى غلبة على الجميع.

مرة جديدة كان سهلا على سعد الحريري الخروج من مأزقه بأقل خسائر ممكنة، فهو لم يرسل جنوده إلى دمشق، ولم يستحدث شريطا حدوديا جديدا على الحدود الشرقية والشمالية، فهو بالنسبة لأغلب السوريين زعيم سارع إلى الوقوف إلى جانب حقوقهم المشروعة، وهو الآن كوليد جنبلاط يجلس على حافة النهر ينتظر جثث أعدائه.

مرة أخرى يقدم الحريري ثابته الوطني على المتحولات الإقليمية، بينما يصر «حزب الله» على تقديم التحولات الإقليمية على الثوابت الوطنية، ويقع رهينة للانتظار.