بين الجهاد والاجتهاد

TT

عندما تنهال علينا كل يوم أخبار القتال والتقاتل والمذابح والإعدامات وتدمير المدن وتشريد ملايين الأبرياء من ديارهم، في سوريا والعراق وليبيا واليمن، بين إخوة في الوطن والدين والقومية.. لا يسعنا سوى التساؤل، وبمرارة: ماذا أصاب هؤلاء المتقاتلين لكي يبلغوا هذا المستوى من العنف والبدائية والوحشية؟ وأين هم عشرات الملايين من المثقفين والمواطنين الصالحين والمؤمنين الذين «يخافون الله» ويشكلون بالتأكيد، أكثرية الأمة، ليمنعوا أقلية من الغاضبين والمتمردين المتطرفين عن إشعال نيران الفتنة والقتال في طول العالم العربي وعرضه؟

وتقفز إلى ذاكرتي بعض الأحكام القاسية التي قيلت بحق أمثال هؤلاء الذين شوهوا وجه العرب والمسلمين في نظر العالم.. ابتداء بحكم موشي ديان - أو أبا إيبان - الذي قال عنهم: «إنهم قوم لا يقرأون. وإذا قرأوا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يقدمون».

أقوال وأحكام قاسية كثيرة أخرى أطلقت على العرب إثر كل نكبة حلت بهم منذ قرن (متجاهلة ما حققته الشعوب العربية من تحرر واستقلال وتقدم عمراني واقتصادي، لا سيما في منطقة الخليج)، منها قول مالك بن نبي الشهير: «هناك دول مستعمِرة (بكسر الميم)، ودول مستعمَرة (بفتح الميم)، ولكن هناك أيضا شعوبا قابلة للاستعمار». أو قول آخر مفوض سام فرنسي على لبنان عام 1937 تعليقا على تناحر الزعماء والسياسيين على رئاسة الجمهورية (لم يتغير شيء): «إن تناحر الزعماء اللبنانيين وتنافسهم على الحكم سوف يدمر بلادهم، وأفضل حل للبنان هو أن يحكمه رئيس أو أمير من النمسا!».

لقد كُتب الكثير وسيُكتب أكثر عن المحنة التي تتخبط فيها الأمة العربية، اليوم، شعوبا وحكاما وأحزابا. وهي محنة سوف تمتد سنوات (كما يؤكد الخبراء الأجانب)، بعد أن تحولت إلى «سرطان سياسي» ينتشر في طول العالم العربي ويتفاقم وينخر في أجسام دولها ومجتمعاتها. أما الدول الكبرى والنافذة في العالم والمنطقة فتزيده تفاقما وضررا، وهي تحاول أو تدعي معالجته.

إن العالم، من الولايات المتحدة إلى الصين واليابان وأوروبا، منصرف إلى بناء مجتمع الغد، حيث تلعب التكنولوجيا دورا أساسيا، وحيث آلاف العلماء مكبون في مختبراتهم على الاختراع والاكتشاف لتسهيل حياة الإنسان وإنقاذ البشرية من أخطار التلوث والجفاف وارتفاع حرارة الأرض والفضاء.. بينما نحن منصرفون إلى تقتيل بعضنا البعض، وتدمير مدننا وتشريد الملايين من منازلهم وإلى الجدل والمزايدة الدينية، ممسكين برقاب بعضنا البعض ونحن نغرق في الدماء؟!

يقول المطلعون واللاعبون الكبار: إن القتال والتقاتل لن يتوقفا قبل سنوات، وإن الحسم أو الحل لن يكون للمنتصر ميدانيا، ولذلك لا بد من الحلول السياسية والمساعي الدبلوماسية على المستوى الإقليمي والدولي. ربما، ولكن من أو ماذا يقنع المتقاتلين بإلقاء السلاح والجلوس إلى طاولة المفاوضات طالما أن السلاح متوفر لهم وهناك من يمولهم ويمدهم بالسلاح ليصمدوا؟ أم تراهم يعتقدون حقا أنهم، بخناجرهم، سوف ينجحون في رفع رايتهم فوق البيت الأبيض وروما؟!

في هذا النفق المصيري المظلم الذي علقنا فيه، لم تغلق، بعد، كل نوافذ الأمل. فتغيير الحكومة في العراق فتح كوة أمل صغيرة. وتدخل الدول الغربية الكبرى جويا ووعدها بدعم المعارضين السوريين شق نوافذ أخرى. والمصالحة بين دول مجلس التعاون، ومبادرات خادم الحرمين الشريفين الدولية والعربية تشكل نافذة أخرى مفتوحة على الآمال. فهل تكون هذه الآمال الكبيرة والصغيرة، حاملة معها بشائر فجر جديد؟ أم أن هذه النوافذ ستغلق جراء انغلاق عقول «المتقاتلين على الجنة» أو بالأحرى على السلطة والمال والماضين في مغامرتهم حتى نهايتها.. أو نهايتهم؟

قد يكون للذين اختاروا التطرف في المواقف و«الجهاد» تحت راية تنظيمات كـ«القاعدة» و«داعش» وطالبان، قناعاتهم أو دوافعهم الشخصية، إلا أن هذا الأسلوب الجهادي القائم على النسف والذبح والإعدامات الجماعية الممارس اليوم في العراق وسوريا، ليس من الدين والإيمان ولا من الإنسانية والأخلاق، ومن شأنه أن يدخل العرب والمسلمين في حروب أهلية، ومع الدول الغربية الكبرى في حرب عالمية ثالثة.

إلا أنه على هامش هذه المأساة الدامية التي نعيشها تبقى الكلمة الأولى والأخيرة للعلماء والمرجعيات الدينية الذين يتوجب عليهم التغلب على فتاوى الملا عمر والظواهري والخليفة المبايع نفسه. وعلى الأخص هيئة كبار العلماء في السعودية وعلماء الأزهر، وكبار رجال الدين المغرب والعالم العربي عموما، وفي الدول الإسلامية الكبرى غير العربية كباكستان وإندونيسيا. ولا ننسى المفكرين المسلمين العائشين في الغرب. فكل هؤلاء مدعوون إلى دحض هذا المفهوم الخاطئ للدين والعبثي للجهاد واستنكار هذه الارتكابات الفظيعة التي تقوم بها تلك الجماعات الضالة ونشر المبادئ الإنسانية السامية والقيم الحضارية التي يقوم عليها وينادي بها الإسلام.

المطلوب هو أن يتغلب الاجتهاد الصحيح المعزز للإيمان في قلوب المسلمين والجاذب للعالم، على الجهاد العدائي للعالم وللحضارة والمنفر لقلوب البشر.

وتلك هي المعركة الحقيقية.