الدولة البوليسية الناشئة داخل أميركا

TT

يجري النظر على نطاق واسع للمهزلة القضائية المشينة التي وقعت فصولها للتو في فيرغسون بولاية ميسوري، باعتبارها مسألة تتعلق بسياسات عنصرية. بالطبع، تعد هذه القضية من إحدى زواياها ذات صلة باعتبارات عنصرية، خاصة في ظل تفاوتات هائلة وموثقة داخل نظام العدالة الجنائية الأميركي بناء على اعتبارات عنصرية.

بيد أنه عند النظر للقضية من منظور آخر يتضح لنا أن هذا النظام على وشك التحول لنظام استبدادي، وهو ما ينبغي أن يثير ذعر جميع الأميركيين بغض النظر عن لون بشرتهم.

ولا أعتقد أنه من قبيل المبالغة القول إن الدرس المستفاد من فيرغسون هو أنه داخل الولايات المتحدة، إذا دخلت في شجار مع ضابط شرطة، فإنه في حدود سلطاته قد يقتلك.

وحقيقة أنك غير مسلح عندما أطلق عليك النار 6 مرات، منها مرتان في الرأس، لا تثير ولو مجرد «سبب محتمل» لتقديم الضابط للمحاكمة.

ولا شك أنه بالنسبة لدولة تفتخر بإرثها من الحرية وحكم القانون، يعد هذا الوضع أمرا مثيرا للصدمة والذهول. ورغم أنني مهاجر ومن أشد المعجبين بالأميركيين ووطنهم، فإن هذه القضية تدفعني لنتيجة مفادها أن الولايات المتحدة دولة مغرمة للغاية بطقوسها القضائية، لدرجة شغلتها عن العدالة. وتخلط الولايات المتحدة خطا بين التمسك الحرفي غير الواعي بالإجراءات القضائية، وبين الالتزام بقضية الحرية في ظل القانون، بينما في الواقع العكس هو الصحيح.

لقد سبق أن كتبت عن نظام العدالة الأميركي، ووصفته بأنه عار وطني. وتركز اهتمامي في السابق على صفقات الالتماس التي تتيح إلغاء المحاكمات أمام هيئة محلفين، وعقوبات الحد الأدنى الإجبارية والتزايد اللانهائي في وكالات فرض القانون، والتوسع المستمر في نطاق السلوك المصنف كإجرامي.

أما الآن في فيرغسون، فنواجه حالة صارخة لإفلات الشرطة من العقاب.

في الواقع، إن هيئات المحلفين الكبرى أصبحت غير مناسبة مطلقا لعصرنا الحالي. وكما شرح نوح فلدمان، فإن السبب التاريخي وراء الاستعانة بهيئات المحلفين كان محاسبة المدعين، وهو أمر اختفى كلية منذ أمد بعيد.

وتكشف فيرغسون الآن لنا عن حقيقة جديدة، وهي أن هيئة المحلفين أصبحت موجودة أساسا لتنفيذ تعليمات المدعين. وفي هذه الحالة تحديدا، لم يرغب المدعون في توجيه اتهام، وبالتالي أخبروا هيئة المحلفين الكبرى بعدم توجيه اتهام. وليس عليك سوى قراءة شهادة الضابط ويلسون لترى كيف عاونه المدعون في تقديم حجة دفاعه.

وبالفعل، حصل المحققون على النتيجة التي أرادوها بعدم توجيه اتهام للضابط، من دون حتى أن يتحملوا عبء تفسير قرارهم بعدم محاكمته. وكان هذا الإجراء مثالا صارخا على التخلي عن المسؤولية، وهو أحد النماذج من أمثلة أخرى كثيرة يتيحها النظام القضائي الراهن. الأسوأ من ذلك، أنه تم السماح لهذه العملية بالاستمرار لشهور، مع عقد هيئة المحلفين اجتماعات بين الحين والآخر، سرا، لدراسة المواد المعروضة عليهم، بينما رغبت الأمة بأسرها قبل أي شيء في عرض واضح للأدلة وحسم سريع للقضية.

ربما ارتأت هيئة محلفين أن ويلسون بريء، وبالفعل تميل معظم الأدلة لصالحه، لكن قطعا كان من الضروري عقد محاكمة.

من وجهة نظري، أرى أن كون الضحية «غير مسلح» سبب محتمل وجيه لاتهامه بالقتل غير القانوني، ناهيك بتضارب الشهادات بخصوص ما إذا كان مايكل براون بعد إصابته، كان على وشك مهاجمة ويلسون عندما أطلق عليه الرصاصات القاتلة.

أما القضية الأهم - والتي لا أرى سبيلا في خضم نظام العدالة الراهن لتناولها - فهي أنه في إطار قضايا مثل تلك، يبدو أن الشرطة والمدعين يحصلون على أسلحة أكبر وسلطات أوسع في كل مرة يتحول فيها انتباه صانعي السياسات إلى قضية نظام العدالة. ولا يبدو أن هذا التوجه يتحول في الاتجاه المعاكس مطلقا.

ومع هذه القوة المتنامية والتي من المحتمل تحولها لقوة طاغية، تزداد ضرورة ضمان محاسبة مسؤولي فرض القانون، إلا أنهم في واقع الأمر لا يخضعون للمحاسبة.. هذه هي الحقيقة ببساطة.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»