مصر بين يومين

TT

في مصر مرت العاصفة بسلام، لم يتحقق الخطر الذي توقعه الإعلام الغربي خلال يومين كانا بمثابة اختبار الرياضيات والفيزياء لطلبة الثانوية العامة. اليوم الأول كان في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) حيث حشدت له اثنتان من أبرز قوى الإسلام السياسي؛ الجبهة السلفية و«الإخوان المسلمون». نزلوا بثقلهم إلى الشارع في كل المحافظات المصرية، رافعين المصاحف شعارا لهم، مسمين تحركهم بانتفاضة الشباب المسلم، مدعين أن هدفهم إبراز الهوية الإسلامية والدفاع عن الإسلام. هذا في مصر عمرو بن العاص، ليس في الفاتيكان أو موسكو.

الفشل في الحشد ليس المفاجأة، لأن القراءات كانت تشير إلى استحالة تشكيل الموجة الشعبية الإسلامية من جديد، فالروافد التي كانت تنطلق منها هذه الموجة مُزَجٌ بها في السجون، والأرضية الأمنية التي كانت مهترئة اكتسبت قوة لوجيستية ومعنوية. متغيرات سياسية واقتصادية أرجعت القوى الإسلامية إلى خط البداية في ماراثون التحكم بالشارع.

إنما المفاجأة التي شاهدها العالم عبر وسائل الإعلام أن الأهالي خرجوا للوقوف ضد مسيرات المتظاهرين، والأكثر من ذلك، أن بعض من خرج من الأهالي يملكون أهم أدوات عمل الإسلام السياسي، أي اللحية والحجاب. نساء محجبات ورجال ذوو لحى، خرجوا لمجابهة «الإخوان» وتفريق مسيراتهم، وهؤلاء مواطنون مصريون ليس لهم انتماءات سياسية، دافعهم للخروج رفضهم للقوى الإسلامية التي تسببت في تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية طوال عامين من ربط الحزام حتى استعصى عليهم التنفس، وهذا تغير جوهري كبير في تعاطي المصريين مع الإسلاميين.

في المجتمع المصري الذي يشكل المسلمون فيه الغالبية العظمى، لا يملك الإخوان والسلفيون وحدهم الحجاب واللحية، صحيح أنهم استخدموهما مفاتيح لعبور عقول عامة الناس من البسطاء الذين يرون فيهما انعكاسا للتقوى والورع، ولكن الشارع اليوم ليس شارع 2011، الدرس الذي تلقاه المصريون لم يقتلهم ولكنه زادهم قوة في الإدراك بأن التقوى في القلوب ويترجمها السلوك. المصحف الذي يرفعه المتظاهر الإخواني من أجل دغدغة عواطف الناس لن يجدي نفعا، بل أثار حنق المصريين الذين توقعوا أن الهدف من رفع المصحف هو رميه تحت أقدام رجال الأمن أثناء الفرار خلال المواجهات فيكون عرضة للدهس، لتسجل مقاطع فيديو القوى الأمنية وهي تدوس الكتاب المقدس أثناء الاشتباكات أو المطاردة.

انتهى الامتحان الأول للقوى الإسلامية ولم ينجح أحد، فشلوا في التجمهر، ولكنهم محتفظون بقدرتهم على العمل الفردي لتقويض الحالة الأمنية بزرع العبوات والتعدي على رجال الشرطة والجيش، ولكن خبرتنا مع مكافحة الإرهاب تقول إن القوة الحقيقية للتصدي هي القوة الشعبية، فإذا كره الناس انبعاثهم وشعاراتهم وتحركاتهم، يعني أنهم فقدوا قيمتهم الشعبية التي كانوا يعولون عليها وكانت مطيتهم في الوصول إلى سدة الحكم في يوم من الأيام.

الامتحان الثاني، كان في اليوم الذي يليه، يوم النطق بالحكم على الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك وابنيه ووزيره ومعاونيه. الحكم جاء بالبراءة، وضربتان في الرأس أوجعتا «الإخوان المسلمين». القاضي الوجيه الذي أدار محكمة القرن، ونطق بحكمه، كان يملك من حدة البصيرة ووضوح الرؤية وغزارة العلم ما جعله يضع على طاولة البحث القانوني عبارة ستأخذ الكثير من وقت القانونيين، حينما علق بأنه «ما كان يجب محاكمة رئيس الجمهورية جنائيا في قضية سياسية». تاريخ النطق بالحكم كان محددا سلفا منذ شهور، لذلك فإن الذين يدعون أن يوم 28 نوفمبر تم تضخيمه إعلاميا للتغطية على براءة مبارك عليهم أن يلوموا أنفسهم أولا، كان الأجدر بالقوى التي تنادت بالحشد أن تؤجل أو تقدم خروجها.

إنما الحكم الأقسى على «الإخوان» ليس براءة مبارك، بل كان حكم الشارع بألا يعبأ بمبارك ولا ببراءته. المواطن المصري أخذت قضاياه المعيشية أولوية في حساباته، ولم تعد لديه الطاقة الوجدانية للتفاعل مع الماضي، يشغله كثيرا التفكير في حاله بعد عام أو عامين، هذا المواطن لم يتحرك ولم يخرج مغاضبا في ظرف كان عصيبا عليه حينما قرر الرئيس السيسي خفض الدعم لسد عجز الموازنة، اضطر للقبول لأنه لم يعد يملك سوى الثقة في الرئيس الذي بدا وكأنه يعرف ما يفعل ومدعوما من قوى اقتصادية كبيرة كدول الخليج.

السيسي الذي افتتح مشروع «تنمية محور قناة السويس» الجديد بكل ما يتضمنه من مشروعات بنيوية ستعيد بناء الهيكل الاقتصادي المصري ويعد مصبا للاستثمار الأجنبي، سيجتمع أهل المال والأعمال في مارس (آذار) المقبل ليقدم لهم كل ما يعمل عليه الآن من إصلاحات نظامية لتحسين المناخ الاستثماري، وفي ذات الوقت يجتهد لتحصيل الدعم السياسي الغربي، خصوصا وهو الذي يكافح الإرهابيين في سيناء كما تكافحهم الولايات المتحدة والتحالف الدولي في العراق وسوريا.

الحالة الأمنية في مصر مقلقة خاصة مع استهداف أماكن التجمعات كمحطات القطارات والجامعات، إنما عصا الإرهاب لم توقف عجلة التنمية. أهم متغير في الوضع المصري يستحق المتابعة هو أمزجة الناس التي سئمت من مناوشات السياسيين على حساب قوتهم وأمنهم. صحيح أن معظم الناس يكنون التقدير لثورة 25 يناير (كانون الثاني) ولكنهم لا يرغبون في تكرارها، لم تعد أدبيات الثورة والثوار تغريهم، فقدت صورة تشي غيفارا وهو يدخن السيجار جاذبيتها، كل ما يريده المصريون اليوم الأمن في البيت والشارع والمدرسة، والعافية في أجسادهم، وضمان قوت يومهم، بهذا تكون قد حيزت لهم الدنيا.

[email protected]