نحن أبناء هذا النهار

TT

في جلسات الصلح بين الفرقاء المتخاصمين، يحكي كل شخص بغضب وانفعال عن الأذى الذي سببه له الآخرون، فيرد عليه خصم قديم: «هل نسيت ما فعلته بي منذ سبعة أعوام عندما فعلت كذا وكذا وكيت؟»، فيرتفع صوت كله ألم: «أنت الذي نسيت ما فعلته بي منذ عشرة أعوام».

هكذا يمد كل شخص كفه في مخازن الماضي ليخرج منها وقائع مؤلمة، السبب فيها فلان وفلان. الجميع وقعوا في لحظاتٍ فريسة لحالة من الألم الشديد الناتج من تذكر كل ما هو مؤلم. وعندما تبلغ العصبية والحدة ذروتها يصيح أحد كبراء القعدة قائلا في تنبيه وحسم: «خلاص يا جماعة خلاص.. إحنا ولاد النهارده».

هذا هو ما يجب أن يفكر فيه كل الشبان والشيوخ في الإعلام، وهو منهج قديم في فلسفة العمل «هنا.. والآن» ماذا نفعل هنا في هذه اللحظة؟ هذه هي القضية المطروحة على المصريين بشكل عام. لقد كان الحكم بالبراءة على الرئيس الأسبق حسني مبارك ورجاله بداية لمرحلة جديدة من الارتماء في أحضان الماضي وعذاباته. مرة أخرى نغرق في موجة سفسطائية حول الثورة المصرية، هل هي ثورة أم كانت شيئا آخر؟ الفكر العملي يقول إن الأمور تؤخذ بنتائجها، نعم هي ثورة لأنها تمكنت من تغيير النظام، لا داعي لضياع الوقت في مناقشة ذلك، والهجوم على سلبيات الثورة ومدح إيجابياتها، في حاجة إلى تذكير الناس أن الثورة بطبيعتها ليست عسلا صافيا كما أنها ليست خلاًّ. والمتحمسون لها ليسوا ملائكة أطهارا، والناقدون لها ليسوا أوغادا أشرارا. ولعل أدق وصف للثورة كان لتشارلز ديكنز في أول سطر في روايته العبقرية «قصة مدينتين»: «كانت أعظم الأوقات.. كانت أسوأ الأوقات.. كانت مرحلة الإيمان بكل شيء.. كانت مرحلة الكفر بكل شيء».

أخشى أننا نمر الآن بحالة مزاجية انتقامية تجعل عددا كبيرا من المثقفين الثوريين يشعرون بالألم لعدم سجن مبارك ورجاله. هم جميعا يؤمنون بالديمقراطية ويحدثونك عن قضائنا الشامخ، وعن حتمية احترام أحكام القضاء لكي لا نروح في داهية، وأمام الكاميرات يبدأون بالجملة الشهيرة «طبقا للقانون لا أحد من حقه التعليق على الحكم»، بعدها ينهالون على الحكم تعليقا وسلخا وتقطيعا. ما هي حكايتنا مع الزمن..؟ لماذا هذه المقاومة العنيفة ضد لحظات الحاضر..؟ مصر لا تملك سوى الحاضر والحاضر هو البنية التحتية للمستقبل. ومستقبل المصريين لن يصنع نفسه بنفسه، لا بد أن نصنعه نحن.. نحن أبناء الحاضر.. أبناء هذا النهار.

لنصارح أنفسنا بالحقيقة، بشرط أن نتعامل معها بصدق مهما كانت درجة مرارتها.. هل نحن عاجزون عن التعامل مع الحاضر لأنه يفرض علينا واجبات نعجز عن أدائها؟ أم أننا مصابون بمرض غريب يمنعنا من التعامل مع الحاضر إلا بعد أن يتحول إلى ماضٍ؟