غياب المساواة وتأثيرها على السياسة الخارجية الأميركية

TT

تناولت الكثير من الكتابات التداعيات المحلية على تفاقم تفاوت الدخول داخل الولايات المتحدة، وكيف أن هذا التفاوت يؤثر سلبا على النمو ويفرض ضغوطا على الطبقة الوسطى تدفعها نحو الفقر ويفاقم مشكلة جمود الأجور ويخلق مصاعب إضافية أمام الساعين لنيل التعليم الجامعي أو شراء منزل. في المقابل، لم يهتم الكثيرون بالتأثير الذي يخلفه هذا التفاوت على الدور الأميركي على الساحة العالمية، وكيف تؤثر التجربة الاجتماعية المرتبطة بالسماح بتركز الثروة على هذا النحو شديد التفاوت في يد طبقة الـ1 في المائة العليا مقابل باقي فئات المجتمع الأميركي، على أسس وحدود السياسة الخارجية الأميركية.

في الواقع، من المحتمل أن يخلف التفاوت المتزايد تداعيات مباشرة وغير مباشرة على مكانة واشنطن الدولية ونشاطاتها.

المعروف أن واشنطن عاونت في خلق وضمان النظام الاقتصادي العالمي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد تطلب ذلك شعور الأميركيين بمسؤولية إضافية وإيمانهم بأن بلادهم تملك قيما فريدة وقيمة ينبغي نقلها إلى العالم.

وعلى امتداد هذه الأجيال، أبدى الأميركيون بالقول والفعل استعدادهم لتحمل الأعباء وتعزيز الأفكار المرتبطة بهذا الأمر. وتزامن مع هذه الحقبة شعور عام بالتفاؤل عزز فترة غير مسبوقة من النشاط الأميركي على الساحة العالمية فيما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن المحتمل أنه مع نضال قطاع متزايد من الأميركيين كي يتمكن من العيش، فإنهم سينظرون إلى السياسة الخارجية - المساعدات الأجنبية والإنفاق العسكري على حد سواء - باعتبارها نفقات رفاهية يمكن تقليصها وخفض الطموحات المرتبطة بها. ومن الممكن معاينة مؤشرات على هذه المشاعر بالفعل على اليمين واليسار، في صورة حركة «حزب الشاي» الانعزالية والشكوك التي تروِّج لها حركة «احتلوا وول ستريت» حول أن مصالح الشركات هي المحرك وراء السياسة الخارجية الأميركية.

الملاحظ أيضا أن دولا أخرى قامت بمحاكاة جوانب من النموذج الأميركي في صياغتها لنماذج التنمية لديها. وبالفعل تحولت مسألة توفير القدرة على الحصول على تعليم عالٍ وخلق الظروف الداعمة للابتكار والسماح بقدر أكبر من الحراك تجاه الأعلى، لسمات شديدة الجذب لكثير من الدول، بيد أن بناء طبقة أميركية وسطى قادرة على البقاء ربما شكّل السمة الأكثر جذبا للمجتمعات شديدة الطبقية عبر أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. ومع ذلك، تتحرك الولايات المتحدة الآن في اتجاه مغاير نحو مجتمع غير مستقر منقسم بين نخبة فاحشة الثراء وباقي أبناء المجتمع. ويقوّض هذا الأمر عنصرا محوريا في القوة الناعمة الأميركية ويبني نموذجا اجتماعيا تنأى الغالبية عن محاكاته.

اللافت كذلك أن الحقبة الأخيرة من النشاط الأميركي على الساحة العالمية تضمنت قرابة 15 عاما من الصراع في الشرق الأوسط وآسيا. وتركزت أهم سمات التفاعلات الأميركية مع هذه الصراعات، والتي جاءت عسكرية في معظمها، في تعديل تكنيكات مكافحة التمرد والتقنيات العسكرية. وشارك في هذا النضال فئة 1 في المائة مختلفة من المجتمع الأميركي، وهي المؤسسة العسكرية وآخرون من المرتبطين بمجال الدفاع. وبخلاف التصفيق لدى رؤية عضو بالمؤسسة العسكرية الأميركية يرتدي زيه الرسمي ويحتضن أسرته في المطار لدى عودته، ظلت الغالبية العظمى من الأميركيين غير متأثرة في الجزء الأكبر منها بهذه الصراعات، فهم لم يدفعوا ثمنها ولم يخوضوها.

لكن المرحلة القادمة من المشاركة الأميركية في الساحة العالمية من المحتمل أن تتسم بالكثافة وأن تستلزم مشاركة نسبة أكبر من المجتمع الأميركي. والمعتقد أن نصيب الأسد من تاريخ القرن الـ21 سيدور داخل آسيا، بما تملك من طبقات وسطى مزدهرة تدفع عجلة الابتكار، ومنافسات بين الدول، ومطامع عسكرية، وصراعات حول التاريخ والهوية، ومساعٍ وراء السلطة. أما الولايات المتحدة فتقف في خضم عملية إعادة توجيه كبرى لسياستها الخارجية وأولوياتها التجارية التي ستقربها أكثر لآسيا خلال العقود المقبلة. والواضح أن التنافس على السلطة والمكانة هناك يعتمد على جوانب شاملة من القوة الوطنية، مثلما تؤثر منتجاتنا وخدماتنا وقوة نظامنا التعليمي وصحة وحيوية بنيتنا التحتية الوطنية في جودة قدراتنا العسكرية. ويتطلب كل من هذه العناصر استثمارات ضخمة ومستدامة على المدى الطويل، بينما في الواقع تواجه جميعها إمكانية تقليص التمويلات الموجهة إليها بسبب تحديات مختلفة. وقد ترتب على تنامي التفاوت داخل المجتمع الأميركي تراجع التأييد لتوجيه أموال لتعزيز هذه الوحدات البنائية المهمة في تفاعلاتنا الدولية.

وعليه فإن الأبعاد المثيرة للقلق لظاهرة تفاوت الدخول كفيلة بمفردها لدفعنا للبحث عن حلول، كما أن الحياة الأميركية وحدها ينبغي أن تكون كفيلة لحثنا للبحث عن حلول. وتأتي التداعيات السلبية المحتملة لهذه التفاوتات على الأداء الأميركي دوليا ليضيف سببا آخر للبحث عن علاج.

وتبقى الحقيقة أن تحقيق تفاعل أميركي نشط ومستديم على الصعيد الدولي يرتبط حتما بمستوى صحة وقوة مجتمعنا الداخلي، الذي تهدده هذه الفجوة المتفاقمة في الدخول.

* خدمة «واشنطن بوست»