هل «السُلطة» هي سبب الانحطاط؟!

TT

تتخذ الأحداث التي تجري بالمنطقة صيغة محاولةٍ هدفها الإفلات من قبضة السلطة من خلال التمرد أو العنف، وآية ذلك أن الاضطراب الذي حصل في الدول العربية تحت اسم التغيير وإرادات الشعب وأهازيج تجاوب القدَر مع من أراد الحريّة كما هو بيت أبو القاسم الشابي العادي ضمن قصيدته التي تقترب من صيغة الأنشودة، كل ذلك الاضطراب لم يكن مرتبطا بتصوّراتٍ أو مفاهيمَ، ذلك أن السلطة ليست مفرخة حريّات يمكن أن تعطيها للجموع، بل السلطة هي فضاء إمكان لإدارة شؤون الناس ووضع مصلحة الكل فوق مصلحة البعض، حيث تسيّل أحيانا حقوق أولئك البعض من أجل حماية الجموع، وهذا وجه صالح من أوجه استعمال السلطة ولهذا قول طويل طرحه جان جاك روسو في كتاباته السياسية المعروفة.

ثم إن السلطة ليست مفرّغةً من مشروعية العنف أحيانا ليكون ضمن مسار الضبط، وهذا جزء من معنى احتكار العنف عند ماكس فيبر، أو السلطة المطلقة لدى توماس هوبز، يريد البعض أن ينقض موضوع مشروعية العنف الذي تستخدمه السلطة ليقول إن هذا طرح من فيبر لصالح السلطة «الشرعية» وليست السلطة القائمة، وهذا له وجه من الصحة، لكن ما الذي يجعل دولة ما عربية أو إسلامية غير شرعية؟! من هنا فإن المشكلة لدى العرب والمسلمين عموما في تحديد التصورات التي يريدونها أو النماذج التي يطمحون إليها، ذلك أن الحراك قدّم أكثر من صورة بينها الكثير من التشابه من خيرت الشاطر إلى البغدادي والجولاني وسواهم من الرموز التي كانت ثمرة الحراك الهائج.

لقد مورست حالة من تقديس الشعارات على نحوٍ نادرٍ في العصر الحديث، إذ باتت الأسماء والشعارات غطاء على فقر التصورات وانعدام المفاهيم وضحالة الفهم للواقع والمستقبل، إذ رأينا من يفضّل إزهاق دم ربع مليون إنسان هدرا مقابل الطموح الصغير بأن يرحل ذلك الإنسان من الحكم. لقد قدسوا الديمقراطية لجعلها الحل الأمثل لكل الكوارث والآفات الموجودة في الواقع، بينما الديمقراطية ليست حلا وليست مشكلة أيضا بقدر ما هي فضاء ينضج بمنتجيه، وحين تجيء الديمقراطية في مجتمعات لاهثة من الفقر، حافية من الفاقة، مرهقة بالجهل، مغتبطة بالشعار فإنها لن تضيف إلى الواقع أي قيمة تنموية أو حضارية، فالديمقراطية تحرس ما هو قائم، ولو جيء بالديمقراطية إلى الصومال أو اليمن أو سوريا فلن تضيف إلى واقعه المظلم أي بصيص من النور.

هناك أعطال في الثقافة وفيروسات من الجهل، أسست لهذه الخطابات والأمنيات الشمولية التي حرّكت الناس ودمرت حاضرهم واجتثّت إرثهم. وإذا كان سلافي جيجك في حواره مع آلان باديو يحذّر من أن مواجهة الإرهاب تتطلب مواجهة مشكلاتٍ مروّعة، فإن مواجهة أخطار التغيير أيضا تحتم علينا مواجهة كل المشكلات المروّعة التي أفرزها وفجّرها الحراك الأصولي الكارثي. إن المناخ الذي تحرّك فيه مهووسو الشعارات واليافطات هو نفسه المناخ الذي حرّك الشعارات الأصولية في العراق وسوريا ولبنان.

كل ذلك الاضطراب في المفاهيم والتصورات في مجالات التغيير والديمقراطية والشعارات أسست لهذا الخراب الذي يُعاش، إذ لم يعد للعلم قيمته، ولا للتحليل الفلسفي أو الفكري تأثيره، وصار القانون نفسه محتقرا، وباتت السلطة محط إدانة دائمة مستمرة، وهذا هو المشكل، ليست السلطة من أسست لهذه الإحراجات الواقعية، بل ضعف تصوّر الحركيين للسلطة هو ما جعلهم يتعثرون في مساراتهم وأحلامهم.

حين تغيب السلطة يحضر الشر، هكذا كتب هوبز الذي يستطرد قائلا: «الحرب الأهلية ليست إلا تجسيما للحال الطبيعية، ولذلك فالناس جميعهم، بمن فيهم القائمون على الدين، يخضعون لرغبة الاقتدار نفسها، التي تدفعهم إلى طلب أسباب الاقتدار بالبحث عن التسلط على أجساد الناس وعلى أرواحهم». هكذا يكتب هوبز مقاربا الحل الأساسي المرتبط بالقانون والسياسة والمؤسسات والمفاهيم.

إن الأحلام الكبرى التي تداعب خيال الجموع لم تنجح في طرح أسئلة مصيرية تتعلق بمعاني تشكل الاستبداد، وهي تستبعد التغيير الفكري والديني الذي يصنع التغيير الكلي تلقائيا، إذ تدبّ دماء التغيير المتدرج في عروق المؤسسات لتنتج واقعا مختلفا، لم تطرح بعد أسئلة مصيرية من أجل الخروج من المآزق، أسئلة الدين والتاريخ والموروث والقبيلة والإرهاب وعلاقتها بالانحطاط، هذا هو المدخل لأي تغيير ألا يكون تغييرا شكليا، أن يذهب طاغية ليأتي الطغاة، بل أن يكون المجتمع متحفزا توّاقا عبر إرث ثقافي سجالي حواري للحريات والتغيير وتجديد دماء المؤسسات.

لقد بتنا في عالمٍ يضيق بشروره، ويشرَق بالدماء.