قفزة قد لا تكون أخيرة لحمادي الجبالي!

TT

قفز حمادي الجبالي، رئيس الحكومة التونسية الأسبق، والأمين العام لحركة النهضة الإسلامية في تونس، 3 قفزات سياسية أفقية واسعة، في أقل من عامين!

في المرة الأولى، كان رئيسا لأول حكومة جاءت بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، في نهايات عام 2011، ففي ذلك المجلس، كانت الحركة قد حصلت على الأغلبية، وكان من الطبيعي أن تحكم وحدها، دون ائتلاف مع غيرها، وهو ما حدث عندما تشكلت الحكومة برئاسة الجبالي، الذي كان في الوقت نفسه، أمينا عاما لـ«النهضة».

ولكن.. بعد مرور أشهر معدودة على أصابع اليد الواحدة، اكتشف الجبالي أن الأمور بالنسبة له، كرئيس حكومة، ليست كما يجب، ولا هي على ما يُرام، فاقترح أن يشكل حكومة جديدة، بشرط أن تكون حكومة كفاءات بالأساس.. يعني لا علاقة لأعضائها بالنهضة الإسلامية، ولا بغيرها.. حكومة تعمل لخدمة المواطن التونسي، بصرف النظر عن انتمائه الحزبي أو السياسي.. حكومة لا يحكمها أي توجه، إلا التوجه الوطني فقط.

كان ذلك في فبراير (شباط) من العام الماضي، وكانت تونس غاضبة بعد اغتيال المعارض اليساري المعروف شكري بلعيد، وكان الجبالي يرى، وكان معه الحق، أنه لا حكومة قادرة على أن تدير أمور تونس، إلا أن تكون حكومة بعيدة عن أي انتماء حزبي، لـ«النهضة»، أو لغير «النهضة».

وما نذكره، ونعرفه، أنه قد تمسك بمقترحه، وأنه قد قال بوضوح، إن البديل عنده هو الاستقالة، ولكن حركته الإسلامية لم تقبل بكلامه، فاستقال في الحال، ومضى إلى حال سبيله!

بعدها، جاء إلى رئاسة الحكومة، علي العريض، أحد قيادات «النهضة».. وكان هذا معناه أن الحركة لم تلتفت إلى كلام الجبالي، وصممت على أن تكون الحكومة لها، ومنها، وهو ما ثبت خطؤه، فيما بعد، وتبين أيضا صواب ما كان الجبالي قد ذهب إليه، وأشار به وأصرّ عليه.

إذ ما كاد العريض يقضي شهورا على رأس حكومته، حتى اتضح لغيره، قبل أن يتضح له، أن حكومة من «النهضة»، لن تكون قادرة على إدارة أمور البلد، وأن أحوال الناس في النازل، وأن أفضل شيء، هو العودة إلى ما كان الجبالي قد طلبه، ونصح به، عن خبرة، وعن تجربة.

ولم يكن هناك بد، من أن يغادر العريض موقع رئيس الحكومة، وأن تأتي من بعده حكومة كالتي طلبها الجبالي في حينه تماما.. حكومة من كفاءات متنوعة، في مواقعها المختلفة، دون أن يكون لأي من وزرائها أي ارتباط حزبي مسبق بأي تيار سياسي في البلد، وهو ما كان، فجاء المهدي جمعة، رئيس الحكومة الحالي، ولا بد أن استمراره في مكانه، كل هذه الفترة، منذ جاء، ورغم أنها فترة قصيرة نسبيا، فإن ذلك في إجماله يدل على أن الجبالي كان على حق، عندما خيّر «النهضة» بين حكومة من الكفاءات الخالصة، والاستقالة.. أو بمعني أدق، وبين قفزته السياسية الأولى!

وقبل أن يمضي عام، على قفزته الأولى هذه، كان قد قرر أن يلحقها بالثانية، حين استقال من منصبه كأمين عام لـ«النهضة» الإسلامية، وقد كان هناك فارق مهم بين القفزتين، هو أن السبب في الأولى، كان معروفا، وكان معلنا، ولكنه في الثانية، كان غامضا، ولا يزال.

وخلال أشهر قليلة أخرى، من مارس (آذار) 2014، عندما استقال من موقع الأمين العام، إلى 11 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، كان الجبالي قد قفز الثالثة، حين أعلن في هذا اليوم انسحابه الكامل من حركة النهضة!

ورغم أنه أعلن أسباب انسحابه، في بيان صدر عنه، فإن القارئ له بدقة، يشعر بأن هناك أسبابا أخرى، غير معلنة، وأن هذه الأسباب المعلنة في بيانه، هي جزء من الموضوع، وليست كل الموضوع.

فهو يقول في البيان، إنه انسحب لأنه يجد نفسه أكثر في معركة الدفاع عن الحريات، من أجل الانتصار للقيم التي قامت من أجلها الثورة على زين العابدين بن علي، وهو يقول في بيانه كذلك، إنه حين انضم إلى حركة النهضة في مطلع السبعينات، فإن ذلك كان من أجل إنجاز مشروع حضاري تنتقل به تونس، من طريق الاستبداد والفساد، إلى طريق الدولة المدنية الديمقراطية، وهو يقول للمرة الثالثة، إنه قد آل على نفسه، أن يكون ضمن المناضلين المنتصرين لمنهج الثورة السلمي المتدرج، وإنه، بهذا الموقف، وهذا الموقع، يجد صعوبة بالغة في الوفاء به، في ظل وجوده ضمن إطار تنظيم حركة النهضة اليوم!

وسوف تلاحظ هنا أن هذه الفقرة الأخيرة من كلامه، هي الأهم في البيان كله، لأنها تلمح، أكثر مما تصرح، ولأنها سوف تطرح السؤال التالي: ما معني أن يكون وجود الجبالي ضمن إطار تنظيم حركة النهضة، معوقا له عن التحرك الحر، في اتجاه النهج السلمي المتدرج للثورة.. وإذا كان لنا أن نطرح السؤال نفسه بصيغة أخرى، فإنه سيكون كالتالي: هل يعني هذا أن «النهضة» بوضعها الحالي تقف ضد النهج السلمي المتدرج للثورة الذي يريده ويراه هو؟! ثم سؤال آخر أهم وأشمل: ما علاقة انسحابه في حقيقته، بفكر النهضة في جوهره، بعيدا عن كلامها، ووعودها، وبياناتها المعلنة للناس؟!

الإجابة الأمينة عن هذا السؤال، يمكن أن تحدد اتجاه القفزة المقبلة للرجل!