العصا لمن عصى أدب الحوار!

TT

اشتهر الهنود الحمر بوسيلة ذكية وناجعة في غرس مفهوم أدب الحوار بينهم وذلك باستخدام عصا رمزية في الحوارات والنقاشات الصاخبة، يمنحونها لشخص واحد تؤهله للتحدث من دون أن يسمح لأحد بمقاطعته. ولما يفرغ من حديثه يسلمها لآخر بدت على ملامحه أمارات الرغبة بالكلام، وهكذا حتى ينتظم الحوار ويتعلم المشاركون كيف يتفادون مشكلة تحدث أكثر من شخص في آن واحد.

وهذه العصا الغليظة، التي أشار إليها عالم الإدارة الراحل ستيفن كوفي، أشبهها بميكروفون العصر الذي ما إن يصل إلى يد أحد الجمهور فيبدأ في الكلام أو طرح تساؤله حتى ينتقل إلى المتحدث الآخر.

والمتأمل لما يجري في فضائياتنا من أحاديث صاخبة أو بالأحرى «صراع الديكة» حسب تعبير وزير التعليم الكويتي الراحل د. أحمد الربعي يجد إزعاجا شديدا منشؤه الأساسي تحدث الناس في وقت واحد. ويحدث ذلك جراء ما يسمى بالإنجليزية بتداخل الأصوات overlapping الذي يرفع حدة النقاش لأن الإنسان حينما يقاطعه شخص أكثر من مرة ينتابه ضيق فيرفع صوته لا شعوريا وأحيانا عمدا أملا في أن يسمع أحد صوته والضحية المستمعون الذين يصابون بالصداع. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني لإعداد دراستين أكاديميتين عن آداب مقاطعة المتحدث نشرتهما في كتابي «لا تقاطعني!» وهو من أوائل الكتب العربية التي ركزت على قضية كيف ننصت من دون مقاطعة ومتى يجب أن نقاطع وكيف.

ومما يزيد الطين بلة حقيقة أن الإنسان حينما يتحدث عن نفسه أو يفرغ همه أو يعبر عن أفراحه وأتراحه فإنه لا يشعر بمرور الوقت فتخفق كل محاولات إسكاته. وربما هذا أحد أسباب منح رؤساء البرلمانات حق إغلاق الميكروفون على المتحدث، بحكم اللائحة الداخلية. وفي مجلس الأمة الكويتي عدل النظام فصار الصوت يقطع تلقائيا بعد المدة الزمنية التي حددها المجلس للمتحدث بالموافقة الشفهية، ومع ذلك تظهر أمام المتكلم ساعة إلكترونية في الشاشة تنبهه إلى قرب انتهاء الوقت حتى يختم وإلا قطع عنه الصوت.

ولذا فإن من أفضل الطرق الحياتية للتغلب على معضلة فوضى الحوار الصاخب اتباع تمرين «عصا المتكلم» التي يمسكها فقط المتحدث في الحلقات النقاشية للهنود الحمر فيما يصغي الآخرون باهتمام وأدب حتى يفرغ ثم يلتقطها المتحدث التالي. وكثيرا ما تستخدم هذه العصا في حالات الفصل في النزاعات بين المتخاصمين أو عند البت في القرارات المصيرية أو أثناء الحلقات النقاشية الجماعية.

وشخصيا أستخدم تمرين العصا مع أطفالي لأغرس فيهم فضيلة الإنصات وأهمية الإصغاء التام للمتحدث حتى يكمل فكرته أو ما يجيش في خاطره حينها تكون قدرتنا على التحدث معه أسهل لأنه سيكون مستعدا للاستماع بعد أن أفرغ ما في جعبته.

لا يقتصر تمرين التحدث بأدب على استخدام العصا وحدها إذ يمكن أن تكون الوسيلة قلما أو ملعقة أو كرة أو علبة صغيرة كعلب المشروبات الغازية. وكثيرا ما أتساءل ما المانع أن يحضر المدير إلى مرؤوسيه أو زملائه في اجتماع عصا المتكلم لتكون فكرة رمزية وطريفة لتنظيم الحوار ولتذكير المشاركين بأن العصا لمن عصى آداب الحوار.

[email protected]