تونس تودِّع مرحلة «المؤقت»

TT

رغم كل الصعوبات التي عرفتها تونس منذ تاريخ ثورتها في 14 يناير (كانون الثاني) 2011، فإن يوم الأحد 21 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، قد مثَّل دليلا قاطعا على أن تونس الصغيرة في مساحتها الجغرافية والمتواضعة في مواردها وإمكانياتها المادية، نجحت في قطع خطوة مهمة وأساسية في مسارها السياسي الديمقراطي: لقد أجريت الانتخابات التشريعية ودورتان من الانتخابات الرئاسية، ضمن شروط الممارسة الديمقراطية، أي أن التونسيين اختاروا ممثليهم ورئيسهم بطريقة ديمقراطية شفافة، كان فيها الفصل لصناديق الاقتراع.

وإذا كانت نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي أجريت في 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011 قد عبرت آنذاك عن ثورية الأشهر الأولى لما بعد تاريخ اندلاع الثورة التونسية وحماستها وفوضاها، وغير ذلك من السلوكيات والمشاعر المختلطة والحقيقية والمسقطة، فإن نتائج الانتخابات الأخيرة كشفت عن عودة العقلنة إلى سلوك التونسي وعن هضم وخبرة لمدى أهمية مشروع الدولة الوطنية التحديثي، وكيف أن هذا المشروع يحتاج إلى دعمه والبناء عليه وتقويته، لا تعويضه بمشروع آخر نكاية في النظام السابق واحتجاجا على الواقع.

من هذا المنطلق، فإن اختيار الأغلبية النسبية من الشعب التونسي التصويت لفائدة حركة «نداء تونس»، ذات الروافد الدستورية البورقيبية واليسارية والتجمعية أيضا، إنما يتضمن رسالة إلى المجتمع السياسي في تونس وخارجها ويعطي فكرة عن طبيعة التونسي الميّال إلى المصالحة والناظر إلى المستقبل والمكترث بالأساس، بما يحسّن من واقعه الاقتصادي والقريب ممن يضمن له استمرارية تمثّلاته حول هيبة الدولة، التي نشأ عليها منذ تاريخ بناء دولة الاستقلال.

ففي خضم هذه الملاحظات، نضع فوز السيد الباجي قائد السبسي، الابن الرمزي لبورقيبة، أول من أمس، برئاسة تونس لمدة خمس سنوات، وذلك بفارق كبير، يبلغ قرابة عشر نقاط مقارنة بمنافسه السيد محمد المنصف المرزوقي، وهو فارق مهم، يدعم حسب اعتقادنا فكرة إيثار التونسيين لما ينسجم من برامج ومقولات ومفاهيم قيم مع المشروع الذي بدأه الزعيم بورقيبة منذ تاريخ استقلال تونس سنة 1956.

وحتى بالنسبة إلى ما تم وصفه بضعف الإقبال على الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الذي بلغ 60 في المائة، لا يبدو لنا عاملا مؤثرا في النتائج. والسيناريو الأقرب إلى الواقع، هو أنه لو كانت نسبة المشاركة قوية، ربما كان الفارق بين المتنافسين الاثنين أكبر بكثير من عشر نقاط. بل إنه إذا وضعنا في الحسبان ما سبق العملية الانتخابية برمتها من تهديدات إرهابية، فإن توصيف المشاركة في الانتخابات بالضعيفة أو المتواضعة، قد يحتاج إلى إعادة نظر وتدقيق. فقبل إجراء الدور الأول من الانتخابات الرئاسية، راجت أخبار في الصحف التونسية منها جريدة «الشروق» التونسية (أكثر الصحف التونسية انتشارا)، تقول إن 40 إرهابيا خططوا للنزول من جبل الشعانبي (جحر السلفية المتشددة التكفيرية)، نحو المدن للقيام بعدد من العمليات الإرهابية. وأيضا قبيل يومين من موعد إجراء الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، راج في الإنترنت فيديو منسوب إلى عناصر تنتمي إلى تنظيم داعش، يتبنون فيه عمليتي اغتيال كل من شكري بلعيد ومحمد البراهمي ويتوعدون فيه التونسيين بالمزيد من القتل.

ذلك، فإن تمكن الأمن التونسي من تحصين الانتخابات بمراحلها الثلاث؛ التشريعية والدورين الرئاسيين، قد شكّل عاملا أساسيا في نجاح هذه الانتخابات وفي تفويت الفرصة على الإرهابيين لتعطيل تونس وإدخالها في أتون العنف والاغتيالات.

وبناء على كل هذه المعطيات والمؤشرات، فإن تونس التي ودعت مرحلة «المؤقت» ودخلت مرحلة جديدة، تقوم على الشرعية الانتخابية المحضة بقدر ما قطعت خطوات مهمة، فإن ما هو مستعجل حاليا، يتمثل في ضرورة الاستعداد لملفات معقدة كثيرة متراكمة أمام النخبة السياسية التي ستتولى الحكم، حيث إن أغلبية مقاعد مجلس النواب في حوزة حركة «نداء تونس»، وكذلك مؤسسة الرئاسة، وهو وضع بمثابة سلاح من حدين، يثقل كاهل «نداء تونس» ويجعل الانتظارات منها عالية السقف، خصوصا في مجالي مكافحة الإرهاب وتنمية الاقتصاد وفض أزماته المختلفة والحادة والضاغطة على حياة المواطن التونسي.

من ناحية أخرى، نشير إلى أن عزوف الشباب التونسي عن المشاركة في الانتخابات وهم الذين قاموا بالثورة، يمثِّل في حد ذاته موقفا احتجاجيا، يتطلب من النخبة السياسية الحاكمة الجديدة جهدا كي تتحول الطاقة الاحتجاجية إلى طاقة للاندماج الاجتماعي. ونفس الشيء ينطبق كذلك على أنصار السيد محمد المنصف المرزوقي، الذين عبروا عن رفضهم لخسارة مرشحهم بالعنف، فمن المهم لرئيس تونس الجديد أن يتفادى أخطاء الماضي ويعمل على استيعاب الجميع، وفي مقدمتهم الذين كانوا ضد فوزه.